التجريب وانهيار النمط في الشعر العراقي

ثقافة 2022/03/25
...

  كمال عبد الرحمن
 
ظهر التغيير في النمط الشعري العراقي بعد موجات من المحاولات التي بدأت في الوطن العربي متأثرة بالغرب منذ نهايات القرن التاسع عشر، منها جماعة الديوان في مصر: عباس محمود العقاد، وعبد الرحمن شكري، وابراهيم عبد القادر المازني، وكانت تدعو الى التجديد في الشعر ورفض الاستهلال في القصيدة وفي البنى اللغوية والانفتاح على الغرب، كما ظهرت في مصر أيضا جماعة أبولو: بالتعاون بين أحمد زكي ابو شادي وبين خليل مطران، وكانت تدعو للنهوض بالشعر العربي، والتأثر بالحضارة الراهنة، ونزعاتها الإنسانية، وروحها الفنية، وكان أبو شادي أول من تحدث عن الشعر المرسل، ثم (أعمال الرابطة القلمية التي تأسست في المهجر الأميركي الشمالي عام 1920، حيث كان الريحاني يدعو الى نبذ الموضوعات التقليدية في تراث الشعر العربي)، ثم بدأت تهب على العراق نهضة مصر، وثقافة الغرب، فبدأ الشعراء العراقيون يتلمسون طريقهم نحو التجديد، وكان جميل صدقي الزهاوي من أوائل الدعاة الى التجديد، فيقول (الشعر في القصيدة اندفاعات في الفكر كالأمواج يعقب بعضها بعضا.. ورب شعر يجعله صاحبه أنموذجا للتجديد)، وقد أسس ميدانا رحبا لطرح أفكاره من خلال مجلته «الإصابة»، وكان الشاعر (معروف الرصافي من الثائرين على القديم، ولم تكن ثورته كثورة الزهاوي وإنما كانت هادئة)، ثم جاءت فترة الرواد والخمسينيات، الذي وصفهم محمد الجزائري بأنهم (استطاعوا مزج الحلم بالواقع، فتداخل صوتهم التجديدي المنجز مع صوت العصر عبر ثلاثية، الحرب العالمية الثانية، حرب فلسطين، وثبة كانون في العراق، فإنهم استطاعوا ربط المحلي بالعربي بالعالمي، والعمل على تخلق الشعر ضمن المؤثرات السياسية والظروف الموضوعية والذاتية)، وكان يمثل تلك المرحلة السيّاب ونازك الملائكة والبياتي، بلند الحيدري ومحمود البريكان وسعدي يوسف وحسين مردان ورشدي العامل وشاذل طاقة وغيرهم. 
ثم جاء جيل الستينيات وهو يحمل نفسا شكلانيا، ومنهم (من كان يرفض تراثنا الشعري ومنطق القصيدة الخمسينية بشكلها الحر البدائي)، وكان الشعراء الستينيون يستشعرون (ضيق الأشكال الشعرية الخمسينية وتكرار ايقاعاتها، ونمطية أبنيتها، فراح ينقدها الشاعر ويتلمس لنفسه أشكالا جديدة، ومفهومات جديدة تسوغها)، ولم يكن الشعراء الستينيون في رضا أو قناعة كاملة عما قدمه شعراء الخمسينيات، فهم في نظرهم كانوا تقليديين ومحافظين، وحاولوا تخطيهم من خلال تخطي الصياغات المتعارف عليها، ثم الاشتباك مع العلاقات اللغوية غير المعهودة، وهكذا دخلوا في النسيج الداخلي للحياة الثقافية العراقية، وأسهموا بمشروع شعري جديد، أطلق عليه سامي مهدي «الموجة الصاخبة» ثم سمّاه فاضل العزاوي «الروح الحيَّة». ومن شعراء هذا الجيل (سامي مهدي وياسين طه حافظ وحميد الخاقاني وفوزي كريم وحميد سعيد وفاضل العزاوي وحسب الشيخ جعفر وغيرهم).
وفي المشهد الشعري السبعيني، لم تخرج القصيدة في البداية عن القصيدة الستينية في الأداء بالشكل، واحتفظت بالإيقاع الخليلي، لكنها سرعان ما سعت الى توسيع فكرة الشعر وارتياد المناطق المجهولة، وهي تبحث عن نوع من الجمال المطلق، فـ (القصيدة السبعينية كما وصفها خزعل الماجدي هي قصيدة مركبة، أي أنها رفضت التسطيح والأحادية، واتجهت الى ذائقة جديدة عبر اشتغالها الجديد، وكان من بين الشعراء اللامعين في هذا الجيل الذين أثروا حقبة السبعينات بمنجز نظري وإجرائي، حتى أصبحوا علامة بارزة من علامات تلك الفترة، هما الشاعران زاهر الجيزاني وسلام كاظم).
وشكل جيل الثمانينات نوعا من الثورة أو الانتفاضة في قصائدهم الشعرية، فبادروا الى إجراء تعديل على أداء القصيدة بشكل عام من خلال العودة الى مشروع قصيدة النثر، واعتمدوا على الإيقاع الداخلي للقصيدة بدلا من الوزن والقافية أو ما يسمى الإيقاع الخارجي للقصيدة، وبهذا كان خروجهم قويا على كل ما هو سائد ومألوف. 
وفي العقد التسعيني والألفيني يكتب الشعراء بالأسلوب الذي تكتب به الأجيال السابقة، ومازال العمل جاريا (على اعتماد أساليب شعرية جديدة).
وبما أن الشاعر ابن بيئته، وهو صوت الأمة، وضمير المجتمع، ومشرع عصره، وقديما قيل إذا سقطت أمة اسألوا شعراءها أين كانوا، لذلك وبالنظر لجيل 2010 الشعري والممتد الى 2020، إذا رضينا بالتقسيم الشعري بهذه الطريقة، فإن هذا الجيل قد تخلخل نفسيا تحت وقعت مجموعة من الحروب والمصائب والجوائح التي امتدت حتى يومنا هذا، أضف الى ذلك استشراء الفساد في السياسة والمجتمع بصورة متتالية منذ عام 2003 والى الان مع صعوبة فقدان حلول منطقية لهذه المشكلات والمعضلات، مما أنتج أهم رد فعل في البلاد هو (ثورة تشرين) وما تلاها من أحداث دموية، وما سبقها من احتلال داعش الارهابي ثلث العراق، بتواطؤ من بعض الجهات، هذا كله أدى الى انهيار في المجتمع وأثر عميقا في الكتابات الشعرية لهؤلاء الشباب، فسلكوا نمط الثورة والرفض في أشعارهم، فظهرت مع ذلك تغييرات في النمط الشعري واسلوب الكتابة، وحالات جديدة في كتابة القصيدة، مما انتج شعرا مغايرا لشعر الاجيال السابقة أدى الى كسر النمط الشعري بوضوح مع محاولات التجريب في الكتابة الشعرية، التي وصل بعضها الى خارج المنطق الشعري لما فيه من مبالغة في طرائق التجريب.