انفعالات النفس عند ديكارت

ثقافة 2022/03/25
...

  أوس حسن
كان مذهب ديكارت هو الجذور الراسخة التي قامت عليها شجرة الفلسفة الحديثة 
في أوروبا، إذ يؤكد سارتر في القرن العشرين أن فلسفة ديكارت هي مذهب 
إنساني تنطلق وجوديته من ذلك الكوجيتو الذي يرى في الإنسان كينونة 
وذات مفكرة في كل ما حولها. وكذلك يرى مارتن هيدغر في فلسفة ديكارت، بأنها فلسفة تتمحور حول الكينونة، وقد وظف هوسرل الكوجيتو الديكارتي في ظاهرياته بالوعي القصدي الذي يتجه نحو الأشياء ويفكر بها.
 
وكان بول ريكور يرى في مرحلة ما بعد الحداثة أنها مرحلة شوهت الكوجيتو الديكارتي، وانكرت الذات الفاعلة تحت مسمى البنيوية التي قامت بتذويب الإنسان في مجموعة من الخطابات والأنساق الفكرية.
لقد تمرّد ديكارت على مفاهيم عصره، ووقف بالضد من الفلسفة التأملية المجرّدة، لذا اعتمد في فلسفاته منهجاً رياضيا مرتبطاً بالعلوم والفيزياء الحديثة عن طريق إعمال العقل وحده للوصول إلى الحقيقة.
فالشك عند ديكارت هو نقد منهجي مستمر يشمل جميع الظواهر العلمية والمعرفية، وجميع الحقائق والأيدولوجيات.
 
كتاب في علم النفس 
كتاب رسالة في انفعالات أو المختصر في انفعالات النفس آخر كتاب حررته يد الفيلسوف الفرنسي عام 1649.. وقد كتبه بالفرنسية وليس باللاتينية، لتوسيع قاعدة جمهوره وعدم حصرها بفئة قليلة من الناس، والكتاب عبارة ثلاثة أقسام وتتضمن مئتي واثنتي عشرة مقالة تختص في علم النفس ودراسة الانفعالات، وقد صدرت مؤخراً طبعة خامسة عن دار الرافدين بترجمة وتقديم جورج زيناتي.
النفس عند ديكارت هي الجوهر المفكر، وما الجسد إلا امتداد، والنفس واحدة لا تتجزأ، أما الجسد فيتجزأ، ولذلك يفترض ديكارت أن النفس المفكرة ممكن أن توجد منفصلة عن الجسد وذلك من خلال عملية الشك التي افترضها في مذهبه الميتافيزيقي.
بعد أن يصنف ديكارت وظائف الجسد الحيوية، ينتقل إلى النفس التي لا تحتوي سوى أفكارنا، وتكون على نوعين هي أفعالها وانفعالاتها، فالأفعال هي جميع الإرادات والانفعالات هي كل أنواع الإدراكات والمعارف التي توجد فينا، والإدراكات عند ديكارت هي تلك التي تنسب إلى الجسم وتأتينا من بعض أعضائه كالجوع والعطش وبقية النزعات الطبيعية، وتلك التي تأتي من الأشياء الخارجية وتصدم حواسنا كالألم والبرودة والحرارة والألم وتثار عن طريق بعض الحركات في الحواس الخارجية والتي بدورها تثير بفضل الأعصاب بعض الحركات في الدماغ والتي تجعل النفس تحس. ونحن لا نشعر إلا بتلك الآثار في النفس كمشاعر الفرح والحزن والغضب، كما أن هناك إدراكات أخرى تتعلق بالخيالات والأفكار.
يرى ديكارت هنا وعلى عكس مذهبه الميتافيزيقي أن النفس متحدة بكل أجزاء الجسم مجتمعة، وهي كذلك تنفعل وتتأثر كبقية أعضاء الجسم، وتبقى في تناغم معه، لكن تبقى ميزتها في الأفكار التي ترتقي فوق الجسد والأعراض الخارجية.
إنّ التعجب وفقاً لديكارت هو أول الانفعالات التي تأتينا من العالم الخارجي وبناء عليه تتكون بقية الانفعالات التي تؤثر فينا، سلبية كانت أم إيجابية، لكن ديكارت هنا لا يطلب منا أن نندهش فقط ونتعجب لأي ظاهرة أو حدث بل يطلب استخدام العقل استخداما علمياً لمعرفة وتفكيك كل شيء غريب يأتينا من العالم المحيط.
تلعب المحسوسات والانطباعات الأولية في الدماغ، دوراً في تحديد مقياس الخير والشر في الحكم على الأشياء والأحداث، وفقا لمبدئي اللذة والألم في الطبيعة الإنسانية، كما يتطرق إلى الانفعالات النقيضة في أعماق النفس، كشعورنا بالتعاطف مع آلام الآخرين ومصائبهم، وفي الوقت نفسه يكمن شعور نقيض في دواخلنا يؤيد تلك الآلام والمصائب.
يتكلم ديكارت عن بعض الانفعالات السائدة، كالحسد الذي يعده حزنا يخالطه الكره النابع من أن الخير الذي أصاب الآخرين لا يستحقونه، وعكسه الرأفة وهي عبارة عن حزن يخالطه الحب أو الخير.
ويعد ديكارت السخرية أو الاستهزاء هي نوع من الفرح الممزوج بالكره، يأتي من أننا نلمس عيباً صغيراً في شخص نعتقد أنه يستحق هذا العيب، وفي قلبنا كره لهذا العيب ونراه استحقاقاً لذلك الشخص.
حول الرجاء والتخوف يتكلم ديكارت بأن اقتناع النفس الرغبة المراد تحصيلها ستأتي ويسمى هذا رجاء، وعندما يبلغ الرجاء أقصاه في تحقيق الرغبات الممكنة فإن النفس تتحرك نحو جهة الاطمئنان.
أما انفعال النفس واقتناعها بأن ما ترغبه لن يحصل يسمى تخوفاً، وعندما يكون على قدر كبير من الشدة لينتزع كل رجاء يتحول إلى قنوط ويطفئ كل رغبة ممكنة.
يرى ديكارت أن الانفعالات في النفس البشرية جيدة بطبيعتها، إذا أحسنّا استخدامها بعد أن عرفناها وفحصناها في دواخلنا، وتحديداً أن معظم هذه الانفعالات تأتي من انطباعات أولى في الدماغ ولها تأثيراتها في حركة الدم ونبضات القلب، فيصف ديكارت حركة الدورة الدموية وكمية تدفق الدم واتساع الأوردة عند شعورنا بالمحبة أو الكراهية، أو الحزن والغضب.
وتأثير كل من تلك الانفعالات على الحركات وعلى المظهر الخارجي، لذلك فإن معرفة الانفعالات وتحديدها يجعلنا نفصلها عن الأفكار، لأن الإفراط في الانفعالات يجعل الموضوعات تظهر للمخيلة وتخدع النفس. 
 يذهب ديكارت عكس الرواقيين الذين يطالبون الإنسان بتعطيل الحواس المبهجة أو الحزينة، لكي يصل إلى حالة من الطمأنينة والسلام، بأن فن التمتع بالحياة يكمن في أن يعيش الإنسان تلك الانفعالات إلى أقصاها، ومن ثم تزيد قدرته على العيش وعلى تذوق السعادة.