الملاك الجريح

ثقافة 2022/03/26
...

ستار كاووش

كيفَ يمكن للفنان أن يعكسَ المشاعر التي تنتابه على قماشات الرسم؟ كيف يجد الحلول التشكيلية لما يحيط به من كآبة أو فرح، حزن أو مرض؟ من أين يأتي بالأدوات المناسبة التي تجعل لوحته من خلالها تدخل تاريخ الرسم؟
كيف يصنع من أعماله قوارب تبحر في نهر الفن الخالد؟ قوارب لا ترسو سوى عند أبواب المتاحف التي تحتضنها بإجلال وتقدير. الفنان الفنلندي هوغو سامبرغ (1873 - 1917) يخبرنا بذلك من خلال لوحته المُلهِمَة التي سنتحدث عنها هنا، وهي لوحة (الملاك الجريح). 
يُعتَبر سامبرغ واحداً من أشهر فناني أوروبا الشمالية، وهو ينتمي للمدرسة الرمزية، والملاك الجريح هي أشهر لوحاته، ولها مكانة خاصة في الإبداع الفنلندي، بعد أن أُختيرَتْ خلال التصويت الذي نظمه متحف أتينيوم، باعتبارها أهم لوحة في تاريخ البلد. 
نرى في اللوحة صبيين بملابس داكنة يحملان ملاكاً جريحاً على نقالة. يجلس الملاك باستسلامٍ في مركز اللوحة، مطأطئاً رأسه الملفوف بضمادة، متشبثاً بأمل الشفاء، وقد تدلى جناحاه الجريحان على حافتي النقالة، فيما يلامس ذيل ثوبه الأبيض الأرض. وفي حين يمضي الصبيان بالملاك بهدوء مشوب بالحذر، ينظر أحدهما نحو عين الرسام، بل نحونا نحن الذين نشاهد المشهد ولا نستطيع فعل شيء حيال ذلك، كإنَّ هذا الصبي يقول لنا، لا خلاص لنا جميعاً، وأنتم مشاركون أيضاً بما يحدث. 
ووسط هذه التراجيديا نلمحُ باقة صغيرة بيضاء ذابلة من الزهور التي تُسمى (قطرات الثلج) والتي ترمز غالباً إلى الشفاء والانبعاث من جديد. 
وقد رسمَ سامبرغ هذه اللوحة وهو في مرحلة التعافي من أحد الأمراض (ذكرت كاتبة سيرته هيلينا روسكا، أنه عانى فترة طويلة من مرض الزهري). أما المكان الذي صوَّرَ فيه الحدث، فهو كان عبارة عن حديقة واسعة في هلسنكي تطل على خليج، وكانت تقام هناك أنشطة اجتماعية للطبقات العاملة في أوقات الفراغ، وهنا استحضرَ الرسام رمزياً، الكثير من المؤسسات الخيرية التي كانت في ذات المكان، إضافة إلى مدرسة المكفوفين ودار المقعدين اللتين كانتا في أحد جوانب الحديقة، وهنا نتأكد من دلالة اختيار الرسام لهذا المكان.
وبكل الأحوال يُفَضِّلَ سامبرغ عدم التوقف عند تفسيرات محددة لهذه اللوحة، بل أرادَ أن يعكس كل من يشاهدها استنتاجاً شخصياً، وبذا تنفتح اللوحة على أكثر من أفق، وتعيش أكثر. أمضى الفنان سنوات عديدة في رسم هذا العمل، وقد ترك خلفه الكثير من الرسومات التحضيرية والصور الفوتوغرافية التي صاحبت الرسم. 
وحين عرضها سامبرغ لأول مرة في معرض الخريف لاقت إشادة كبيرة، وكانت سعادته غامرة حين نالت اللوحة استحسان الجميع، بعد أن كانت لوحاته تلاقي الرفض، وقد كتب لأخته بليندا يخبرها بالنجاح غير المتوقع لهذه اللوحة (أردتُ مشاركتك بأخباري السارة، فرغمَ تشدد لجنة التحكيم، لم يتم رفضي في معرض الخريف هذا العام، يبدو أنني قد حققتُ بعض النجاح بعد أن رأيت الفنانين يتحدثون بحماسة وإعجاب عن هذه اللوحة) . 
قامَ سامبرغ برسم ذات اللوحة مرة أخرى بحجم كبير، بهيئة جدارية في كاتدرائية تامبيري. وقد أنجزت فرقة الميتال السمفونية الفنلندية سنة 2007 عملاً موسيقياً من وحي هذه اللوحة الخالدة.