أندريه بروتون: انتشال الصمت

ثقافة 2022/03/26
...

 إسكندر حبش (*)
 
 ما زالت “السوريالية”، بكلّ ما صاحبها من لغط ومفارقات، تثير شبهة البعض، من قراء وكتّاب ونقاد وباحثين. وعلى الرغم من أن أحدا لا يملك الجرأة الكاملة – اليوم – على ملامسة وخلخلة مجد السورياليين وتأنيب تصرفات “رُسلهم” الذين رحلوا بغالبيتهم عن هذا الوجود، إلا أن هنري بيهار (مدير مركز الأبحاث الخاصة بالسوريالية والمشرف على إصدار مجلة “ميلوزين”) يأتي من الوجهة المعاكسة، في كتابه الصادر عن منشورات “كالمان ليفي” وفيه يكتب سيرة أندريه بروتون – “بابا السوريالية” – تحت عنوان “المكروه الكبير” (Le grand indesirable).
 فعلى الرغم من هذا التسامح المتواطئ مع “هذا النسل المتواري” الذي له “وجه الأرامل”، تجيء السيرة وكأنها تطعن الأسطورة التي نسجت حول السورياليين بشكل عام، وبروتون بخاصة، تجيء وكأنها تُكتب بالرغم عنها. فقد وجد “بابا السوريالية” – أخيرا – سيرته الذاتية “المناسبة” و”المحترمة” و”المثيرة للجدل”. فكتاب بيهار “صورة شخصية واقعية جدا”، إنه “درب الجلجلة الذي يسير بروتون فوقه” و”إن كان مسيحا فقد صليبه”.
 سيرة بروتون كما يرويها بيهار، تفشي الكثير عن “روح هذه التصرفات” التي قام بها، كما أنها تقدمه لنا على أنه “مغرم بالكتابة الرمزية” على العكس ممّا كان يعرف عن، كما أنه شخص “مترف” و”بورجوازي صغير”، على الرغم من الصعوبات المادية الدائمة التي عرفها ولاحقته. شخص يحب قراءة “أنطولوجيات الشعر” وليس فقط “لوتريامون” وتصفه بأنه “دكتاتور صغير” يزرع أذواق النساء بتنبؤاته وإن “لم يتحقق شيء من كلامه”.
 يدخلنا بيهار، عبر كتابه هذا، إلى قلب علاقات بروتون، كما إلى حياته، بدءا من طفولته “المكللة بالسأم” في إحدى ضواحي باريس بين أسرة تجمع المتناقضات. فوالده كان “كافرا بامتياز” في حين أن أمه كانت “شديدة الإيمان”، وقد كان عليه أن يختار وهو بعد مراهق إلى أية “فكرة ينحاز” فوجد في جملة “ليس هناك إله ولا سيد”، المكتوبة على شاهدة أحد القبور، الحل المناسب، إذ ترك الله إلى غير رجعة، وإن كان “الشك بقي يلف عقله”.
 وبحسب بيهار فإن بروتون كان موزعا بين أسطورتين: التنويم المغناطيسي والثورة. فقد وجد في فرويد وفي “الصراخ الليلي الهيستيري لغال دو غراس” مدرسة “باروكية تلقّى فيها تعليمه” كما كانا “القاطرة المصفحة للعصيان الأصلي”، وقد وجد في “تروتسكي” – حيث زاره العام 1938 في المكسيك – “الإمام الثاني عشر”.
 عن أصدقاء بروتون يقول بيهار إن أكثر اثنين أثرا على بروتون كانا “جاك فاشيه” الذي علمه أن يسكر من الحياة كي يغرق الكآبة” والثاني بنجامان بيريه كي يكون “المتمرد الذي لا يمكن إيقافه”.
 تأثير جاك فاشيه على بروتون كان صريحا، فهو – أي بروتون – يكتب عن صديقه في “الخطوات الضائعة” التالي: “لقد تعلقت في الأدب بجاري وأبولينير ولوتريامون، إلا أنني مدين لجاك فاشيه أكثر ممّا لأي منهم ... لن يغرب عن بالي أبدا. ومع أنني سأرتبط بآخرين ألتقيهم فيما بعد، إلا أنني أعرف بأني لن أتعلق بأحد من الناس بمثل هذا الاستسلام”. أما تأثير بيريه، فهي نقطة مجهولة في حياة بروتون، فقد كان بيريه ينعت مؤسس السوريالية دائما بأنه “مؤامرة لا هدف لها”.
 لكن النقطة التي تلفت الانتباه فعلا في كتاب بيهار، خلال حديثه عن أصدقاء بروتون، فهي – وخلافا للقصة الرائجة – أن الشاعر لم يكن يقطع علاقاته مع أصدقائه لمجرد نزوة عابرة، بل على العكس من ذلك تماما. فقد كان لا يلجأ إلى هذا الحلّ إلا بعد أن يستنفد كلّ الاحتمالات الممكنة لإعادة الحوار؛ هكذا فعل مع لوي أراغون وروبير ديسنوس وبول إيلوار. فبروتون كان أقلّ “ألما لو أن قريبا خانه على أن يرى هذا الشخص يخون ماضيه ويتنازل عن مستقبله ...”
 ويضيف بيهار فضلا عن النساء اللواتي مررن بحياة بروتون، النساء “اللواتي تشرفن بالنوم معه” فقد كان يفضلهن – كما زوجته الأولى سيمون كان – “من البورجوازيات أو من اللواتي يرتدن الصالونات” وإما من بنات الليل “كعاهرات الشارع وراقصات المولان روج، لكن شرطه الأساسي هو أن يجدن اللغة الفرنسية، ولا يحاول مع أي واحدة لا تتكلم هذه اللغة. إلا أن ناديا، (التي كتب عنها إحدى روائعه في كتاب حمل اسمها)، اختصرت النساء وأصبح بعدها يطالب بالحب اللانهائي والمجنون”.
كما كلّ الذين كتبوا قبل ذاك عن بروتون – يعتبر هنري بيهار أيضا – أن أدب بروتون هو امتداد لحياته. لقد أراد الشاعر إيجاد ذلك الإنسان المشدود نحو “العمل الجماعي” مهما كانت الصعوبات والأوهام التي تتبدد والتي يسببها عمل كهذا. صحيح أن نجاح السيرة متكامل جدا، لأن الكاتب لا يقع أبدا في التقديس فهو يبتعد عن الأسطورة والكليشيهات، التي تكون في أكثر الأحيان، سلبية ... لقد وضع بيهار قدميه في موطئ قدم رجل معقد ومتناقض، فهو (أي بروتون) “إنساني بشكل لا متناه”. مع كل ما يدفع ذلك إلى الضحك والدموع، إلى عاطفة جياشة وخيبات أمل، مع كبائره اللاواعية وصغائره المعلنة”. 
أن ينكب بيهار على سيرة بروتون بموضوعية فإنه يبرهن، وبأدلة قاطعة، بأن الشاعر “أخلص كل حياته للشعر والحب والحرية”. إذ بقراءتنا لهذه السيرة، نسائل أنفسنا، إذا ما كانت كل هذه المعارك التي خاضها هذا المتشائم تشارك في نضاله كي “ينتشل من الصمت” الذي غالبا ما كان يطبق عليه.
 ربما لا يستطيع أحد أن ينفي اليوم أهمية التيار الذي أسسه بروتون، حتى لنخال أن مرور الزمن يزيده شبابا. ربما لأن “التمرد” و”الجمال” هما سمتاه الأساسيتان، فتماما كما قال لابنته ذات يوم: “غدا عندما تكبرين، سأحاول أن أشرح لك ما عرفته عن الحب والحياة والثورة... ربما ستقولين إن ذلك ليس عمليا، لكنه كان يشرفني في أي حال ...”. 
ربما هذا ما يحاول بيهار البحث عنه، في كتابه عن بروتون. لكن أليس معرفة الكثير عن هذا الشاعر، تكون نتيجتها أن يفقد الساحر سحره، إذ قد يكون الغموض، هو من زاده “ألقا” والعصر يبحث دائما عن “الأساطير”.
 
(*) كاتب من لبنان