نحن ظلال ضائعة في دخان الحروب

ثقافة 2022/03/28
...

 حميد المختار 
 
كَتَبْتُ ذاتَ مَرة أنّ الحرب فاكهة فاسدة، إذا أكلها السّاسة تسمّمت الشعوب، وقد تسمّمنا نحن في العراق ومُتنا أثناء غزو صدام للكويت.
كنْتُ هارباً من العسكريّة، ممّا اضطرني أنْ أُمَثِّل دور المجنون، وأذهب بمعية أخي الكبير إلى اللّجان الطبية في مستشفى الرشيد العسكري، وقبلَها دخَلت مستشفى الأمراض العقلية في الشماعية لمُمارسة دور المجنون بإجادة كاملة، ومن هناك كنت أسمع أصوات العذاب الإنساني والموت اليومي الذي يتعرّض له العراقيون سواء في الجبهات أم في زنازين الأمن العامة..
أتَذَكّر هذه السنوات وأنا أُتابعُ اليومَ ما يحدث بين روسيا وأوكرانيا، وأتابع ما يتعرّضُ له المدنيّون من تهجير في ممرات آمنة لهم فقط، ولا يَحِق لغيرهم أنْ يَعْبروا معهم كالعرب والأفارقة، إنّها عنصريّة الحروب وعذاباتِها التي لم ولن تنتهي..
كان إله الموت (ثاناتوس) يعقد صفقات الدّم معنا في كل حروبنا العبثية، يتقدّم منا بقلبه الحديدي وأحشائه البرونزية، وبقدمين ملتويتين ومتقاطعتين، وهي رمز عمّا تكون عليه الجثث في القبور، وجههُ غائر وهزيل، وبيده منجَل لحصدِ الأرواح التي تنتظر موتها بشغف على الجبهات، وكثيراً ما يتم الحصاد، حتى أنّ الدكتاتور العراقي سَمّى واحدة من المعارك بالحصاد الأكبر لكثرة الموتى من الطرفين العراقي والإيراني إبان الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات..
لقد كنّا نؤمن بغريزة الحياة ونقاوم الموت بعيداً عن رموز الموت والمسببين له، أولئك الذين يميلون إلى القتل وعبادة القوة والسادية، الذي أطلق عليهم (إريك فروم) مصطلح "النيكروفيلي" وهو الشخص الذي يميل إلى كل ما هو ميت وعفن، ويعشق كل ما يتصل بالموت والدفن والمرض والقتل والدمار، بل وينجذب نحو الظلام والليل والأماكن المُقفرة، وهو شخص سادي يُقدّس القوة ويكره الضعف ويتلذّذ بعذاب الآخرين، ويمكن اعتبار (هتلر وستالين وصدام) نماذج لهذا النمط الكاره للحياة، هؤلاء هم عشّاق الموت والدمار، وتسحرهم مشاهد التعذيب والقتل، ونحن أمام هذه القسوة بقينا على طبيعتنا التي جَبلنا الله عليها، نُحب الحياة والجمال، ونراقب الحشائش التي تخْترق الأحجار كي تحصل على الضوء، وكذلك ما يفعله الحيوان الذي يهرب من الموت والإنسان التوّاق للبقاء حياً في أخطر وأقسى الظروف..
ما زلت أسمعُ صوت الشاعر الأميركي المتمرّد (روبرت بلاي) الذي يقول: "أخبروني لماذا لا نرفع أصواتنا في هذه الأيام كي نحتجّ ضد ما يجري، هل انتبهتم أنّ الخطط وُضعت للعراق والغطاء الجليدي يذوب"..
أقول لنفسي: "هيّا اصرخ، ما معنى أنْ تكون راشداً بلا صوت!، اصرخ وانظر إلى مَن يستجيب، هذه دعوة واستجابة".. لِنَصرخ ملء أفواهِنا كي يصل صوتنا إلى ملائكَتنا ثقيلة السمع المختبئة في أباريق صمت مُلئَت أثناء حروبنا، نَحْلة الموت قادمة كما يصرخ هؤلاء الشعراء وهم يراقبون الطائرات وهي ترفرف بأجنحتها الحديدية فوق المزارع الخضراء والنّصال الفتاكة تحوم بلا هوادة، تماماً كما كنت أقف مُحاصراً بجحيم حروب العراق، وأرى الذين أُحِبّهم من أصدقائي يقضون نحبهم داخل ذلك اللهب.. واليوم تغْفو آمال (تولستوي ودوستويفسكي) داخل أصوات نشاز ترفض وجودهم في محافلهم وكتُبِهم الدراسية في أوروبا، إنّها الحرب فلا تَسْأل عن الرحمة..
لقد حَفِلت الآداب العالمية بأدب الحرب واحْتفى العالم بتلك النصوص التي تُدين الحروب في كلِّ مكان، لكنّ ما يحدث في العراق هو عكس ذلك تماماً، حيث أنتجت (مؤسسة النظام الثقافية) أدب حرب تَعبَويّا، دِعائيّا وسوبرمانيّا، ظَلّ حَبيس الأقبية والمخازن حتى تحوّل بعد ذلك إلى أكياسٍ للخضراوات والحَلوى في الدكاكين، وحتى أكون منصفاً، هناك حالات فردية كَتَبَت بعد الحرب ورُبّما أثناءها ورُكنت، وكنت أقول إنّ أدب الحرب العراقي سيأتي يوماً حين يزول النظام..
وقد رأينا ثمة الكثير من الروايات التي تتحدث عن حروبِنا تصدُرُ الآن خارج العراق وداخله، وآخر ما قَرأته وكَتَبْت عنه هي رواية حميد قاسم (ظهر السمكة)، أما العالَم الآخر فَسِجِلّه يَحفَل بكَمٍّ هائل من الروايات التي كَتبَت عن الحرب في روسيا وأميركا وأوروبا عموماً، منها روايات (همنغواي) التي تتحدث عن الحروب التي كان فيها يعمل مراسلاً حربياً، ورواية "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" التي كتبها (ريمارك)، وطبعاً رواية "الدون الهادئ" (لشولوخوف)، ورواية "سارقة الكتب" (لماركوس زوساك)، ورواية "المريض الإنجليزي" (لمايكل اونداتجي)، روايات كثيرة لا يسعها ضيق هذا المكان..
وأخيراً ستظل الشعوب كظلالٍ ضائعةً تبحث عن ملاذٍ آمن في دخان الحروب التي لا ينتهي أوارها.