اليقظة في الكتابة

ثقافة 2022/03/28
...

  ياسين طه حافظ
حين يكون الكاتب يقظاً وهو يكتب، لا تسحبه المسلمات ولكن يتفحص العبارة، يتفحص المفردة ليتأكد من دقة أدائها. أما أن يتحدث بسلاسة وديناميكية الماكنة، فهنا السرعة والدوامية تتضمنان خسارات وفي نتاجها الأخير ما لاينفع، بل ما يضر. وحين أقول ما يضر فأعني ضرراً في اتجاه التفكير وارتباكات تضيّع الوضوح أولا والسلامة ثانياً.
 
يوماً كتب ارك همبركر: "ربما تقول أول وهلة هذا المكان جحيم بالنسبة للشاعر أو الكاتب أو الفنان... والحقيقة هي أنه جيد له لأن فيه ما يوقظه عندما يحتاج إلى تلك اليقظة. هو ملائم للإنسان المعافى الذي يريد مراقبة أعقد اللعب وأشرسها وأكبرها في العالم – لعبة الاقتصاد والتبذير- فإذا نظرنا للمكان من هذه الزاوية فهو جيد وأنك سوف تحبه...". نحن في هذا المكان وإشكالاته وأسبابها..
لم يكن حديثنا عن الاقتصاد أو عن الاستهلاك والتبذير، لكن الفحوى تتسع لما نريد، وأية الموضوعات نتحدث عنها أي أن نكون يقظين في الكتابة ولا تفوتنا الجوانب الأخرى قبل الإدانة وقبل الاستحسان, قبل الرفض وقبل القبول او التبني.
إذا هو السعي لثقافة تتسع للأبعاد الأخرى، للأبعاد المقاربة وللجذور والأسباب مع الانتباه للمحصلة أو النتائج. وهذا  ضمن ما يعنيه الموضوعي الواقعي لا المفترض. في الوقت نفسه، يجب أن تكون التضحيات للواقع المرسوم الممكن لا للأوهام ولا لما تجتهد منتشية به المخيلة. احتراماً كافياً لهذا الشرط، سننتبه للقرابين والضحايا والأزمنة والأعمار التي دمرت بلا جدوى وبلا سلامة موقف ولا سلامة أخلاق أيضا.
هكذا دخلت للموضوع بعنف وقد نويت المساس به بحذر. لكني وأنا يثقل رأسي تاريخ صعب فيه مما يؤسف ويؤلم أكثر مما يبهج ويرضي، يصبح حتماً عليَّ القول: نحن لا نستطيع أن نحقق كل ما نريد، كل ما نتمنى، كل ما نحلم به. أو نسمع عنه.
ليس غير أن نحقق بعضاً منه وعلينا هنا الرضا بالنتيجة. غيرها أقرب للوهم، فلا غرابة بعد.
ماهو عزاء البشر في ربع النتيجة هذا؟ هو في الأقل انتفاضة عبر الاستسلام والدائمية. هو في الأقل يؤسس لما هو ضد. هو هبة إلقاء بذور قد تساعد المواسم بعضَها على الايراق.
نعم، نحن لم نغادر الأسى ولكن هي حركة اتجهت الى المستقبل وإن خمدت من بعد. من هنا أرى لكل تقدم، لكل جهد للتغيير أن يكون بعضاً من تاريخ، أن يكون حركة" مضافة الى سلسلة حركات شهدها التاريخ واحتفظ بها في سجلاته وفي أرواح ناسه. أعني أن يكون بعضاً مهماً من ثقافة الأجيال. بذلك يكون التاريخ الوطني، القومي، هو كنز الكاتب. والتاريخ الثقافي الكبير بكل مضامينه هو كنزه الثقافي الذي يمنحه الامتياز والمعنى.
مضمون الفقرات السابقة يؤكد ضرورة واقع أو معقولية أو فهم لا ينأى عن المادية حدّ تجاوز ظلالها إلى اللا شيء أو غير المنطقي، أو الذي يترك العقلاني لا إلى الرمز ولكن الى وراء الوهمي والذي لن يكون في مكان ولا يوصل إلا إلى ضلال. علينا تقبّل حقيقة أننا نعيش على أرض، ومن الأرض على مكان له شروطه الجيدة والشريرة أو القامعة – والتدمير نوع واسع من القمع.
ونتيجة لذلك، علينا أن نتقبّل حقيقة أن ثمّة حداً لما نستطيع القيام به وأن ليس علينا التزام بالقيام بما لا نستطيع.
لكنه طبع غريزي أو نتاج تربية بعيدة الجذور، أن نفترض قرب اللا ممكن أو نفترض لنا صلة باللا موجود، تعيننا على ذلك المخيلة أو تقادم الحاجة والحرمان... بتوسيع هذا وتجاوزه للحدود الفردية الى العقل الجمعي، تكبر الصدمة ويتسع النكوص أو الكارثة وحتى ليبدو غير مستغرب أن المدن التي كانت في حالة تقدم اجتماعي وفكري تسقط بأيد متشددة أو تحت هيمنة دكتاتوريات. وراء ذلك فرط الوهم الجديد والإرث الهيمني وتاريخ الخضوع القديم. حين يسيطر الأول يحضر الثاني مكملاً أو رديفاً. خطأ أن نراه نتيجة ونكتفي!، المهيمن وجد فرصته والخضوع القديم، أو توأمه، وجد فرصته أيضا! وإلا كيف نفسّر الانسجام، والرضا بالواقع السيء الجديد زمناً قد يطول الى عقود؟ إن حضور هاجس الرفض ليس كافياً مع استمرار الهيمنة كل هذه المسافة  الزمنية غير الطبيعية، هاجس الرفض هنا – رديف الملل وبعض من حياة كانت...
حين ابتدأنا حديثنا بألا تسحب الكاتبَ المسلّماتُ الجاهزة وبألا تفوتنا الجوانب الأخرى لأي مسألة، كنا نريد الوصول إلى هذا.  ثمة تاريخ مضمر من السلبيات أو الطباع، تجد فرصتها حين تتوافر بيئة وجو ملائمان لإنباتها... ويمكن أن نجد سنداً لما نراه في التطبيقات العملية في عصرنا – وهو عصر متقدم وعصر ثقافة، مع الانتباه لحقيقة أن كل الشعوب، المتقدمة منها والمتخلفة، واقفة في مدى هذا العصر وعلى بينة، مما يجري فيه وما يُدعى إليه من قيم جديدة وكيف يعيش فيه  الناس. لكننا نواجهُ في أحد بلدان هذا العالم أو في عدد من بلدانه، أن الذين ابتغوا مزيداً من التقدم عوقبوا بأساليب قروسطية، بل قديمة وبدائية. فحتى الآن انتقام وغزوات وسلب واغتصاب وحرق وسمل عيون وجدع أنوف وتكسير أذرع وسيقان بل حرق أحياء ونبش قبور.. التخلف المطمور يحضر منتقماً وبكل توحّشه.
ما أردت قوله والتأكيد عليه هو ألا ندوّن وألا نحكم على بالظاهرة أمامنا بالأسباب القريبة منا. القديم، التاريخ تحت السيطرة، حيثما ومتى ما وجد فرصته الملائمة، قفز من مكمنه وفرض أساليبه ووحشيته حتى في قلب المدينة، وفي المدن الزاخرة بالجديد أفكارا ومدنية وقوانين!.
حين أثارت زميلة موضوع النسوية "وكتابتي الأخيرة عنها، استغربت إجابتي: إن المعركة من أجل الحقوق الأنثوية وتطلعاتها، هي جزء أساس من المعركة من أجل حضارة مسيحية يهودية – وإسلامية في جانب، وبين حضارة ما بعد حركة التنوير الفلسفية، وإن اتضاحها الجديد هو من اتضاح الديمقراطية الغربية. فمع النسوية تزداد المطالبات- وقد تحقق بعضها، بحقوق المثليين وحرية التعبير والمعتقد وعموم حقوق الإنسان. 
الحقوق النسوية ضمن هذه التعددية، أو هذا الاشتباك الذي يشهده نمو واتساع القرن الحادي والعشرين ممتداً الى الثاني والعشرين... يقابلها من الجهة الأخرى الحقوق المستلبة، بل الاضطهاد والهيمنة اللذان مرا على البشرية، واللذان يحضران بوحشية قصوى بين حين وآخر في أحدث المدن. الشر القديم جاهز للانقضاض على التحضر وعلى الداعين المبشّرين به والذين تجرؤوا على تطبيقه. أحرقت نساء وقتل بعضهن خنقاً او بالرصاص لأنهن رفضن الحجاب أو رفضن التخلي عن دينهن او حتى لم يطعن  أزواجهن أو أسيادهن، ومتسلطون أشرار أكلوا لحم خصومهم! كل هذا وفي زمن السفر العظيم الى الفضاء..