وعي الحاضر: ملاحظات عن المنفى والكتابة

ثقافة 2022/03/28
...

  ريبيكا روث جولد*
  ترجمة: محمد تركي النصار
   وسط المنافي العديدة التي عشت فيها، كنت أعزي نفسي بأن ابتعادي عن وطني حررني عاطفيا وروحيا من المواقف المنحازة للأرض التي ولدت فيها.  ويمكنني القول بأن هناك شيئين فقط أحبهما في أميركا: موسيقى الروك، والأدب الأميركي الأفريقي، ولحسن الحظ فإن كليهما يمكنني الاستمتاع بهما عن بعد، أما بالنسبة للبقية مثل النقانق المعدلة وراثيّا، وسيارات الدفع الرباعي والفرق الشاسع بين أجور العمل، وعقوبة الإعدام، والعنف المتكرر، والحق في حيازة السلاح، فلا شيء منها يشكل ضرورة لوجودي.
 
 في كثير من الأحيان لا يعي الاميركان انحيازاتهم الجغرافية، والعديد منهم يجهلون ما يدور في العالم الخارجي بالطريقة التي أتفاعل بها شخصيا، ومثل هذه المواقف السلبية أسهمت بإعطائي نوعا من التبرير لتهدئة إحساسي بالتشرّد الروحي، فطفت البلدان والقارات باحثة عن وطن بديل لذلك الذي ولدت فيه، بيد أنني أرفضه.
 لقد حفّزني أحد أصدقائي الذين هاجروا مؤخرا الى المملكة المتحدة على التأمل بتجربتي في المنفى، حيث أخبرني بأنه يشعر بالانسلاخ عن ماضيه الشخصي، لكنه غير قادر على ايجاد نفسه في محيط جديد، فقد اضطر الى أن يكتب بلغة ليست لغته الأم وبقيت طاقته الروحية معطلة في سبات عميق داخل تلك اللغة الأصل.
 لقد شخص أدوارد سعيد هذه الحالة قائلا: "بالنسبة لمعظم المنافي تتمثل الصعوبة ليس بسبب الإكراه على العيش بعيدا عن وطنك، لكن في العيش مع ناس يذكرونك بأنك في المنفى وبأن الحركة الطبيعية لكل يوم من أيام الحياة المعاصرة تجعلك تعيش حالة من الحيرة والانقطاع عن المكان القديم".
 ويضيف سعيد: "بأن وجودك بالمنفى في العالم المعاصر لا يعني بشكل دقيق بأنك منفي الى أرض غريبة، بل يعني أنك تعيش في عتبة لا هي تشعرك بالانتماء لوطن الثقافة الجديدة، ولا هي حالة انقطاع تام عن ثقافتك التي نشأت عليها في وطنك الأول".
لقد كان صديقي يائسا من إمكانية القدرة على الإبداع وسط هذه الحالة من الانسلاخ الغريب ومن استطاعته على أن يظل محافظا على ذاته الأولى، معتقدا بأن ماضيه ترك في وطنه الأم وهو عاجز عن أن يصنع له شخصية في هذه الإقامة المؤقتة.
 حاولت أن أقنعه بأن هذه الحالة ليست بالغرابة التي قد نظنها، ففي عالمي الشخصي، وفي تاريخ الآداب التي تشكل منها نسيجي الروحي، كانت حالة الكاتب المنفي هي القاعدة وليست الاستثناء، إذ إن علاقة الفنان بالحقيقة كانت دائما تعكس بشكل واضح حالة الإحساس بالنفي، وهي قضية تم الحدس بها، والتعبير عنها في القرن الثاني عشر من قبل الراهب (هيو)، وذلك بدير القديس فيكتور في صفحات الانسكلوبيديا التي كتبها وحملت عنوان (التسمية التوضيحية) إذ كانت تدرس لطلبة العلوم والبلاغة والفلسفة والتفسير.
 في كلمات مشهورة تمت إعادة تأويلها من قبل أدوارد سعيد في مقالته عن المنفى عام 1984، يناقش (هيو) المنفى بوصفه مجازا يصور بحث الزاهد عن الإشراق الروحي، فالإنسان الذي يجد وطنه مكانا مريحا يكون مبتدئا بسيطا هشّا، وفي المستوى الآخر يقول هيو بأن الإنسان القوي هو ذلك الذي تكون كل أرض تماما مثل أرضه التي ولد فيها، وللباحث عن الحقيقة، يكون العالم بأجمعه أرضا غريبة، ويواصل هيو شارحا هذه المستويات المختلفة للإشراق طبقا للمخطط الثلاثي نفسه: الروح الهشّة تركّز حبّها على بؤرة واحدة في العالم، أما الإنسان القوي فيوسّع حبّه ليشمل جميع الأماكن والإنسان الكامل حاذق في تمييز مكانه ومعرفته.
لقد منحتني جنسيتي الأميركية علاقة بالمنفى مختلفة تماما عن صديقي الذي أتحدث عنه، فالاحتفاء بانعدام الجذور، وعدم الاكتراث بالعالم، اللذان يتحدث عنهما هيو راهب دير القديس فيكتور في تصنيفه للمنفى كان صعبا استيعابه بالنسبة لهذا الصديق، ليس بسبب علاقته بوطنه الأم فقط التي تختلف عن علاقتي بوطني، لكن أيضا بسبب علاقة وطنه بالعالم، وعلاقة العالم المختلفة بوطنه أيضا.
يقدم أدوارد سعيد في نهاية مقالته قصيدة تجسّد بشكل لافت فكرته عن الإحساس بالعزلة والانسلاخ عن الوطن الأم: وهي قصيدة (رجل الثلج) لوالاس ستيفنس التي كتبها عام 1921، وهذه القصيدة المحيّرة ليست عن المنفى تماما، رغم كونها حكاية رمزيّة لحالة المنفي في ضوء قراءة أدوارد سعيد، إذ يدعو ستيفنس الآخرين في القصيدة للتوقف عن استخدام كائنات العالم الطبيعي في التعبير عن الاضطراب والفوضى الداخلية، والنظر الى اللامبالاة الفاترة للثلج بوصفها أمرا ذا دلالة مغايرة وجديرة بالتأمل.
   لقد عبر الشعراء الرومانتيكيون الأوائل هم وقراؤهم كذلك عن إحساسهم بالتعاسة باستخدام عبارات مثل (صوت الريح/ في صوت بضع أوراق) عندما كانوا يحدقون في مشهد شتائي.
ويقترح ستيفنس طريقة مختلفة في النظر والإصغاء، إذ تستخدم القصيدة روح المفارقة المعبرة عن الحالة الغريبة للمنفي:
بالنسبة إلى المستمع
الذي يستمع في الثلج
ولا يرى شيئا من ذلك في نفسه،
فذلك هو المجرد اللا شيء
لا شيء الذي ليس هناك
ولا شيء في اللا شيء.
 يطرح أدوارد سعيد بشكل لافت طريقة مختلفة في التعبير عن تجربة محددة في المنفى، إذ يحول قصيدة ستيفنس الى أنموذج يعبر عن حالة خيال المنفي، مثل عابر سبيل يصغي الى خشخشة الثلج، فبدلا من أن يزج بمشاعره في المشهد الشتائي يرى (اللا شيء الذي ليس هناك، واللاشيء الذي يكونه).
يتعلّم المهاجرون النظر الى العالم من مسافة، وقد علّمني المنفى بأنّ هذه المسافة تكون مؤلمة أحيانا ومربكة في كلّ الأوقات، لكنها تمنح الشخص الذي ينظر فوائد مهمة.
وباتباع أنموذج سعيد فإن عقل الشتاء هو حالة كينونة على عكس تفاؤل غرامشي في ما يتعلق بالإرادة وتشاؤم الفكر الذي مكّنه من النظر في تراجيديات العالم من دون يأس وانكفاء وهو في سجنه.
 قصيدة (رجل الثلج) لستيفنس تعبر عن إحساس الفرد بالانسلاخ عن العالم مثل طائر الريش الذهبي الذي يتدلى للأسفل من النخلة، ومثل رجل الثلج فإن هذا الطائر لا يبالي بهذا العالم وويلاته، وهذه اللامبالاة هي ما تجعله شاهقا وهو يغني، حرا من دون إحالات معاني بشرية وشعور بشري، إنها أغنية غريبة يمكن وصفها بأنها حلم خيال المنفي.
وبالنسبة للمنفيين الذين أكرهوا على قطع صلتهم ببلدهم الأم، فهم يعانون من محدودية القدرة على تحديد مصيرهم، وبالنسبة لهذه المخلوقات المحكومة بالقدر تغدو القدرة على اكتساب عقل الشتاء شيئا مهما، إنه الحلو المر في آنٍ معا الذي يعكس قيمة الإرادة، والقدرة على التكلّم عن هذه الحالة هي الدفاع الأنقى عن شعر المنفى، وهو لغة الوطن الأم التي يتم النظر إليها من مسافة معكوسة وتجعل الشخص غريبا عن ذاته.
في هذا الشكل المعبّر عن الانسلاخ تصبح لغة الوطن أحيانا أكثر جمالية في المنفى.
يصنّف (كتاب القلق) لفيرناندو بيسوا أمته الوحيدة بأنّها اللغة البرتغالية، إنّها القومية الوحيدة التي تستحق أن يحوز عليها، هكذا عبّر صديقي الذي تحدثت عنه قبل قليل عندما ذكرت له هذه الكلمات لبيسوا.
إنَّ اللغة البرتغالية بالنسبة لبيسوا هي وطنه المتنقل الذي يمكن تشكيله ومحوه، ثم إعادة تشكيله مرة أخرى من أي مكان على سطح الكرة الأرضية.
أما الانفصال عن الذات فيعبّر عنه بحالة الأسر في قصيدة (رجل الثلج) التي نواجه فيها أولا رؤية باردة، وغير مكترثة بالطبقات المتعددة للمعاناة التي يستحضرها الشاعر، فرجل الثلج وهو عابر السبيل نفسه يمتلك هذا الإحساس بالانفصال واللامبالاة والبرود ازاء المشهد الخارجي.
إنها حالة المهاجر الذي يكتسب ما نطلق عليه (عقل الشتاء) ففي المستوى الأول يوسم هذا العقل بالانقطاع وعدم الاكتراث، ومن زاوية أخرى تكون هذه اللامبالاة علامة على الثبات بالمعنى الظاهري. 
إنّ المنفية التي تتحدث هنا لا تفكّر بأي إحساس بالتعاسة في صوت الريح، وبمعنى أعمق تكون حياة المنفية كلها محاصرة بهذه التعاسة والسبب الوحيد الذي يجعلها لا تفكر في هذا هو أن هذه التعاسة هي في كل مكان.
  إنه نوع من التقطّع المستمر في وجودها، بديهي مثل التنفّس.
وعلى هذه المنفية أن تحصل على عقل شتائي لكي تتمكن من التحرك من مكان الى آخر، ويتوجب عليها أن تتعلم كيف تقول وداعا من دون أن تعطي فرصة للندم ليشل قدرتها على الحركة، وهي تسعى لتحقيق شيء أكبر، وأكثر أهمية وديمومة من وجودها على الأرض نفسه، من دون السقوط في فخ الكآبة والإحباط.
 
* كاتبة وأستاذة جامعية أميركية متخصصة بالأدب المقارن والدراسات الإسلامية تدرس في جامعة برمنغهام.