الخروج من الأزمة

آراء 2022/03/28
...

 ابراهيم العبادي
سواء نجح العراقيون في تجاوز أزمة الانسداد السياسي الراهن أم لم ينجحوا، يتعين على القوى السياسية العراقية أن تفكر كثيرا في المآلات المترتبة على هذه النمطية من السلوك السياسي السلبي، إذ إنها تجازف في خسارة الرصيد الاجتماعي وتمعن في توسيع مساحات عدم الثقة بينها وبين الجمهور المحبط.
 
القوى السياسية العراقية بلا استثناء تعاني من تراجع قواعدها الشعبية، انتخابات تشرين أوضحت أمرين ذوي دلالة كبيرة، الحجم الكبير للمقاطعة الشعبية، ثم في فوز عدد كبير نسبيا من النواب المستقلين، كان حصاد الأصوات مخيبا لآمال الكثيرين، وحتى الذين فازوا عرفوا أن جمهورهم ظل محدودا، اقتصر على المحازبين 
والمنظمين.
السباق السياسي المحموم بين الكتل السياسية اقترن هذه المرة بخيار كسر الإرادات، وتصفير المنطقة الوسطى، فليس المستقلون ببعيدين عن هذا الاختبار، لا وجود لمنطقة ظل ومسك العصا من وسطها، فالحياد صار
 انحيازا.
دخل المشهد السياسي العراقي في تعقيد أكثر من أي وقت مضى، لا مفاوضات الأطراف قربت المتنافسين من الحل الوسط ولا نوايا كسرالارادة المتبادلة خفت حدتها. السلوك السياسي الراهن يؤشر إلى خطأ منهجي كبير، فالمشكلة ليست في تغلب رؤية على غيرها وتقدم فكرة وتراجع أخرى، المشكلة أن اللاعبين السياسيين ينظرون إلى هذا التنافس الشرس بأنه صراع على قيادة مكون، ومن يخسر هذا الصراع سيكون خارج اللعبة بلا موارد. ولذلك صار التحشيد في هذه المعركة يستخدم ذات الأدوات التي استُخدمت في المراحل الأولى من العملية السياسية الجارية، أدوات الدين والمذهب، وهي الأدوات الخطرة التي يمكن أن تستخدم في الاتجاهين، فمن كان صالحا في يوم ما يغدو شيطانا في اليوم التالي، انحدار السلوك السياسي إلى هذا المستوى من المجازفة بالرصيد الاخلاقي المتبقي، يجرد القوى السياسية من الدافع السياسي الايجابي ويحول لعبة التنافس السياسي إلى مصارعة ثيران إسبانية، الفائز فيها مطارد بقسوة الدماء النازفة من الخصم والخاسر فيها ضحية عناد وتحدٍ.
لم تتمايز الاتجاهات السياسية العراقية بوضوح كامل على أساس فكري وبرامجي، لا يمكن أن نعد اتجاها بأنه يساري في مقابل اتجاه يميني محافظ، ولم تقدم كتلة مشروعها السياسي لمعالجة مشكلات الاقتصاد ومواجهة الفساد وادارة الدولة ادارة علمية صحيحة، الجميع يرفع شعارات فضفاضة ويتحدث عن مبادئ عامة والهم الأول والأخير هو تأكيد صوابية اختيارات الذات وتمايزها الحزبي.
ثمة تجربة قريبة العهد منا عانت من صعوبات تقارب المسافات بين التيارات الحزبية، اليمين واليسار وأحزاب اليمين المتطرف الدينية والأحزاب العلمانية، أنها تجربة الحياة السياسية في الكيان الإسرائيلي، وقد خاضت هذه الأحزاب تجارب حكومات الوحدة الوطنية والائتلافية وحزاب الاتجاه الواحد (اليمين)، التي كان يقودها بنيامين نتنياهو المتهم بالفساد.
ولأن المجتمع منقسم بين علمانيين ودينيين وعرب ويهود وأحزاب متشددة وأخرى معتدلة، اقتضى الأمر خوض أربعة انتخابات نيابية لحسم موضوع التقارب في عدد الأصوات، ومن له حق تشكيل الحكومة، حيث أصبحت الأحزاب العربية هي من يرجح الكفة ويفرض الشروط.
انتهت الأزمة أخيرا بتغلب أحزاب يمين الوسط وتشكيل حكومة التناوب (كل سنتين رئيس للوزراء) برأسين بين نفتالي بينت ويائير لبيد وبمشاركة القائمة العربية ذات التوجه الإسلامي.
المشكلة العراقية التي تستنسخ مشكلات التعددية الطائفية اللبنانية، وتعيد التسميات ذاتها (ثلث معطل وثلث ضامن) مدعوة للتعلم من تجارب الاخرين لعبور المأزق، النضج السياسي هو العامل المفقود في المعمعة الراهنة، وبينما ينهمك السياسيون في سباق التحدي وكسر الارادات ينشغل المثقفون في البحث عن مخارج للأزمة باقتراحات تتراوح بين تعديل الدستور، وتحويل النظام البرلماني إلى رئاسي أو شبه رئاسي، بينما يذهب آخرون إلى ترجيح مقولة المستبد العادل أو المستبد المستنير، باعتبار أن العراقيين لا ينقادون إلا للرجل القوي الحازم وغير جديرين بقبول التداول السلمي للسلطة في بيئة تكثر فيها الرؤوس المتصلبة. هذه المقولات تصبح ترفا سياسيا في واقع محتدم وتصارع غريزي قد يتحول إلى عدوان، لكسر الانسداد والاستعاضة عن حرب المفاوضات والاعلام بحرب السلاح، ما يستدعي ظهور فئة حكماء جدد يجترحون المستحيلات لمنع انزلاق الوضع الراهن إلى الهاوية التي يخسر فيها الجميع.