ملاحظات عن الشعر والجمال

ثقافة 2022/03/29
...

 ريجنالد شيفرد *
 ترجمة: عبود الجابري
لن أثق بالجمال بعد الآن.. كتبت ذلك ذات مرة: (متى استطيع التوقف عن الإيمان به؟)، وفي مرة أخرى:  (لأن الجمال راسخ ومنتصر دائما)... وليس صديقا لي.. هل هو كذلك؟ ذلك جزء من الحقيقة. الجزء الآخر من الحقيقة هو أننا من دون فكرة الجمال، تجسيد الممكن وسط القنوط الدنيوي، فإنني لم أكن لأصبح شاعرا، وربما لم أستطع تجاهل مشاريع الإسكان في المدينة التي ترعرعت فيها. الجمال أنيق وفي الحقيقة غالبا ما يكون ضروريا جدا، وليس هنالك معنى لإدانة الجمال بشكل ظالم وفق الغموض السيئ للأيديولوجيات، الذي يعد الجمال نوعاً من اللهو الذي لا يتفق مع العمل الحقيقي.
(لينين) الذي اعتقدت دائما أنّه رجل عظيم.. لم يكن يستمع للموسيقى لهذا السبب. وكانت الريبة تخالجه من الأشياء التي تملك نفوذا عليه وتوهن عزيمته وتجعله ناعماً يستجيب لما يطلب منه. وببساطة شديدة فإنّ التعاليم الدينية عن الجمال الآري والتي تبنّتها النازية تعد من أكثر الأمثلة رداءة.
بالنسبة لي، حيث نشأتي الفقيرة، والقواسم المشتركة التي  تركت ظلالها عليَّ ماديا ونفسيا، فإنه ليس من الممكن الاعتقاد من جهةٍ أخرى بمناقشة الجمال، إنّه أمر ضروري. وقد بات شائعاً أن تصيبنا الحيرة بين ما هو جميل وما هو حسن فقط، ووضع الحلية في مكانٍ غير ملائم من أجل التجميل الطارئ لما حولنا من الأشياء كمكمّلٍ لبساطة الجمال. هذا المنظور يضع الجمال على مفترقٍ متصل من الطرق، من الحسن الى الجميل الى ما هو خيالي. الجمال هنا هو شكل من أشكال الوسطيّة او الحلّ الوسط. كان (أدموند بروك) أوّل من ميّز بين الجمال والسموّ، وبين ما هو مستسلمٍ لنا وما نخشى أنْ يغمرنا، ما يستطيع تدميرنا ولكنّه لايفعل. (عمانوئيل كانت) وحديثاً (جين فرانكوس لايوتارد) أسهبا في تفصيل هذا الاختلاف، في هذا المشهد فإنّ الجمال يغدو مبعث طمأنينة وراحة، إنّه يزوّدنا بما هو معلوم لدينا، بينما يسقط السموّ علينا كموجات متعاقبة من إعصارٍ غير موسمي.
غير أنّ الجمال نوعٌ من الإصرار، وله متطلّبات عديدة، فهو يتطلّب منّا رؤيته والاعتراف به، الاعتراف بمشاهدتنا له، الاعتراف بتغيّرنا مع تقادم خبراتنا. وكما كتب (ريلكه): الجمال هو بداية الرعب الذي بالكاد نستطيع احتماله. إنّه كما كتب (فرانسيس بيكون): ما من جمال لا يحمل نسبة من الغرابة فيه. ولنقتبس من توماس ناشز من (ابتهالات زمن الكارثة) القصيدة التي تجسد جمال الإبادة، القصيدة التي يتحدث المتكلم فيها عن موت الجمال:
الشعاع يسقط من الهواء
الملكات الشقراوات متن في مقتبل العمر
الغبار غمرَ عينيّ (هيلين)
أنا مريض.. ويجب أن أموت
الرعب الذي يوازي السمو من وجهة نظر (كانت) رديف لجمال (ريلكه)، السمو هو الوجه الحقيقي للجمال، تماما كاستسلام (زيوس) لـ (سيميل) وهو بكامل مجده، كعودة (يهوه) وحيداً تلاحقه عيون الأعداء. الجمال يحرق ويفترس: نحن نُميت أرواحنا القديمة لتنبعث من جديد. إنني اقتبس واستشهد، أحيل وأشير، ولستُ نبيّاً في كل الأحوال، بِمَ أؤمن، ومن أنا، وفي أي الأوقات؟، ربّما تبدو هذه المقاربة دليلاً، لكنها ليست دليلاً على أن الجمال أمرٌ شخصيٌّ أو شأنٌ خاص.
 شعرتُ أنني أُسرت بجمال الرجال الذين لم أستطع امتلاكهم او تمثلهم بشكل مطلق، (الجمال يستدعي الجمال، وبعد كل ذلك فإنّ الجمال يستدعي التلقّي، وعلى ما يبدو فإنَّ المتلقّي لن يكون جميلاً، من ناحية أخرى فإنّه يستطيع تأمّل ذاته، وشعرتُ بالهزيمة عند التفكير بالمسافة بين ذاتي وما أودُّ أن أكون. شعرتُ بكلا الأمرين: البهجة والاغتراب المطلق عن جمال الطبيعة الذي يبدو أساسيّاً بالنسبة لي من دون تفكير وليس هناك تفكير في استثنائه أو تبديله بطريقة مبسّطة. ليست هناك رغبة او إمكانية في أن أكون شلّالاً يسقط على منحدر، رغم إحساسي بدوارٍ ملحٍّ يشدُّني الى ماءٍ أبيض أو زيت حجري. ولكن كانت وما تزال لديّ رغبة في حماية لحظة الترقّب، وتلك إحدى المسائل التي يعنيها الشعر  بالنسبة لي، القدرة على التوسّط بين الكينونة والتوق، ردم الفجوة عبر إيضاحها. من أجل التوضيح تعني أيضا من أجل التواصل، مرَّة تبدو القصيدة مرتبطة بالسؤال: (كيف تبدو كل هذه الأشياء مترابطة مع بعضها؟؟)، اللّغة ذاتها مفصل يربط بين إحساسين: إنّها تتحدّث وتصل.
لا شيء يبدو فيها مجرّداً، ولكن كلّ شيء يتَّضح من خلال العلاقة بين الأشياء، الجسر بين ما هو ماديّ وما هو حسّي، بين الصورة والفكرة، بين الدال والمدلول، اللّغة جميعها اقتران، صلات، ومنافذ اتّصال.
الحقيقي ينتظرُ عند الزاوية.. لا يصرّح به أبداً.. زاهد مطلق... لكنّه موصل، حسب قول (أي.أم . فوستر).
 كتبتُ مرة أنّ الكثير من قصائدي نقاشٌ بين الجمال والعدل  وأنها تتكيَّف مع معارضتها لكليهما، كما لو أنَّ زيف الجمال قد تكشَّف من خلال عيون العدل الحاذقة. لكنني أعتقد مع (الين سكيري) وآخرين الى حدٍّ ما بما يدعى بالتقاليد الغربية، من أنَّ الجمال والعدل يبدوان أمرا واحدا، حيث يُظهر الجمال لنا الأشياء كما يجب أن تكون عليه، وبذلك الوعي فإنَّ الجمال سيمثّل الفضيلة كما يعتقد (إفلاطون)، وسيتطلّب منّا وعي الجمال تمثُّل تلك الفضيلة، فمن هو الذي لا يودُّ أن يكون جميلا؟، ومن لم يحاول أن يكون جميلاً حين كان بمقدوره ذلك؟ حضور الجمال يذكرنا بغيابه الكليّ، ويحتاج منّا إلى بذل الجهد لمعالجة ذلك الغياب بكلّ ما أوتينا من إمكانيّة، لئلا نكون عبيدا لألم فقدانه، وعودة الى كلمات (ريلكه) مجددا: ليس هناك جزء لا يراك، عليك أن تغير حياتك. قوام الجمال شكلٌ من أشكال العدل، توافق وتناغم فقط (حتى وإن بدت نغماته نشازاً ومتنافرة) فإنّ علاقة الجزء بالكلّ وعلاقة الكل بالجزء الواحد ستشكّل ذلك الأحساس بأنّ الشعور بالجمال سيقترح نواةَ المجتمع العادل. الجمال ليس مفيداً بشكل خاص لجميع الأشياء، ماعدا مساعدته للفرد في الركون اليه، وأنا أميل إلى فكرة لا جدواه.
في مجتمع تحكمه الآلة يبدو غير مجدٍ أن تكون صالحا من أجل لا شيء، مثلما يمكن أن تكون صالحاً من أجل منفعة المجتمع، الجمال يظهر ما كان، (كانت) أطلق عليه تسمية  (مملكة النهايات)، العالم الذي يسعى فيه الناس والأشياء للبقاء من أجل ذواتهم وليس ببساطة من أجل معاني الأشياء الأخرى (الربح، القوة) وعند (سارتر) يبدو الجمال (حقلاً خاصّاً بذاته ومن أجل ذاته. الجمال أخرق ومزعج ومحرج في أغلب الأحيان وإنّ استجابتنا للجمال تجعلنا نضيع رصانتنا وهدوءنا في ما يطلبه منّا، ما يلزم منّا وما علينا تخصيصه له)، أمعنت النظر طويلا في هذه الرؤية وأيقنت أنّني بحاجة الى تبصّر أكثر للوصول إلى معنى الجمال...
 
* ريجنالد شيفرد
من مواليد نيويورك - نيسان 1963
شاعر وكاتب حصل على جائزة ديسكفري عن مجموعته الشعرية (أحدهم يغرق)
له في الشعر:
أحدهم يغرق 1994
الملاك معترضا 1996
خطأ 1999
المغايرة 2003
وله في  النثر كتاب أورفيوس في برونكس – مقالات في الهوية – وهي نصوص في السياسة والحرية والشعر عام 2007.
عن مجلة  poetrysociety