اقتباسات أدبيَّة .. بدلاً من الأبيض

ثقافة 2022/03/29
...

 ميسلون هادي
 
بدا لي صعباً أن أنشر هذا الكتاب في البداية، وترددت كثيراً في نشره مع وجود ذلك الفيضان من الأفكار والأقوال التي يقدمها العالم الافتراضي في كل أمر يسير أو عسير،  ثم استقر الرأي على شأنٍ آخر عندما انحسر الماء عن سيلٍ جارف لا تستقر فيها صورة أو عبارة بلا حيرة أو اضطراب. فأصبح هذا الفضاء الألكتروني في فوضى من الاقتباسات والمأثورات التي تنسِب إلى كتاب كبار من الأقوال ما لا نعرف إن كان مأخوذاً حقاً من مؤلفاتهم، أم هو من تأليف مستخدمي الفيس بوك، أو مما تداخل في حسبانهم مع أقوال واقتباسات أخرى. 
فعلى سبيل المثال تتردد دائماً عبارة بليغة بين الكرماء من أقطاب التواصل الاجتماعي مفادها: (البدايات للكل والثبات للصادقين).. وتارة تجد هذا الاقتباس منسوباً إلى وليم شكسبير، وتارة إلى فيودور ديستوفسكي، وأخرى إلى جبران خليل جبران.. وتعال أيها العم نجيب محفوظ وأنظر ما يحال إليك من أقوال وحكم واقتباسات قد تكون من صحيحك، أو قد تكون منتحلة من أجل حصد التفاعل مع المعلقين الذين استوى بهم القارب على هذه الأرض
الجديدة.
من هنا ترجحت عندي فكرة نشر الاقتباسات التي أحتفظ بها في دفتر يعود تاريخه إلى نهايات السبعينات، وفيه كنت أسجل، وما زال الحنين إلى ذلك ملحاً، الاقتباس الذي يستوقفني عند قراءة أي كتاب أو بعد الانتهاء منه.. وبذلك يكون مصدر هذا الاقتباس موثوقاً به لأنه مأخوذ من قراءاتي تحديداً، وهذا هو السبب الأول الذي أنهى حيرتي وترددي، وجعلني أفكر بنقل تلك الاقتباسات من ذلك الدفتر إلى الملأ، أما السبب الثاني فلأني وجدتها تعبر عني وتمثل ممرات رائعة سرت فيها، ومطارح صافية رشفت منها الماء الزلال، فنقلتها حسب الصورة التي وردت فيها، وحسبما جاء في الصفحة الواحدة من أقوال لم تخضع للتسلسل الزمني، بل خضعتْ لاختياري مساحة معينة من الدفتر، أدوّن فيها ما أعجبني من عمل  أدبي أو فلسفي قرأته عبر الزمان، كما أبقيت على أغانٍ سياسية قليلة كنت قد دوّنتها في الدفتر منذ بداياته. وعلى بعض إشاراتي التي تضمنت (كما في ملاحظاتي عن ألف ليلة وليلة، وبعض مؤلفات فاطمة المرنيسي ومحمد عابد الجابري) رأياً يعود لي في شأن ما من شؤون تلك الكتب.
هذه الاقتباسات كان يمكنها أن تكون عاديّة، أو عاطفية لفتاة بدأت القراءة قبل العشرينيات من عمرها. 
لكن بدا بأن كل شيء نوعيّ منذ البداية، والحلم كان يبحث في وقت مبكر عن كلمات تتجسد أمامه بطريقة معبرة عنه، كما لو أنها نون التوكيد للفعل المضارع، أو أن قائلها يعرفني ويراني ويشعر بما أفكر فيه.. تلك العبارات كانت عندما تواجهني.. أتوقف عن القراءة قليلا، وأرفع نظري لكي أتأملها، وقد أؤشرها،  لكي أعود إليها أو أنقلها بخطي مباشرة إلى دفتر الاقتباسات، وبالطبع فمع كل صفحة تمتلئ من ذلك الدفتر لن تعود الدنيا كما كانت في السابق.. والأفكار ستكتسب مراجعات جديدة تأخذ صياغات أخرى وفقاً للجدليات التي لا تتبنى ظهور فكرة جديدة بشكل اعتباطي، وإنما عبر تناقض و صراع بين فكرة قديمة وأخرى جديدة، ومن ثم فإن الشكل الجديد يأتي من من الشكل القديم، وينشأ من عملية التناقض والصراع نفسها.. فهل هذا شيء جيد أم سيء؟، أي أن تظهر لنا كلمات مرسومة في الكتب لكي تغير حياتنا، وتمتدّ بأثرها إلى ما لا نهاية من مسافات يصلها السابقون باللاحقين من خلالهم وخلالنا؟!، أعتقد بأنه شيء مهم أكثر مما هو شيء جيد أن نعيش حياتنا بالشكل الذي لا ينغلق فيه قوسان على فسحة ضيقة وقاحلة، فأفكار النخبة من المفكرين هي خلاصات الزمان، والأدب، كما يقول ماريو فارغاس يوسا، تسهم في صناعة التاريخ، وفي التقدُّم البشري، عبر استخدام الخيال والفانتازيا، ورفع الجمال إلى أعلى مراتب القيم
الإنسانية.  الجروح، كل الجروح، إذا ما تركتها للصقيع فإنها ستلتئم من تلقاء نفسها على أن لا يجنّنها أحد بشيء من الأوهام والتوقعات.. أما عند الكاتب فتتحول إلى فانتازيات سادرة تصلح لرسم لوحات أوريجينال خالدة.. قد تلتقط لنا تفاصيل لا نستطيع التقاطها.. أو تساعدنا على إعادة اكتشاف أنفسنا وعقائدنا، أو تخفف من الإفراط الذي نعيشه في سنوات الصبا أو الشباب، وحتى إذا ما قتل الكتاب أو أمرض شيئا جميلاً عندنا، فسيتم اختباره أو نفيه عند تراكم الأساسات ورسوخها، وفي النهاية سيمتلك القارئ طريقة تفكيره الخاصّة، و هناك من يتَّفق مع الكاتب، وهناك من لا يتَّفق معه، أو يرفضه تماماً.  
أجل.. أهم ما في القراءة أنها أنشأت لي الأساسات الفكرية اللازمة قبل الشروع بالكتابة، وهذه الأسس تدق مداميكها الكتب المقروءة بلهفة شديدة، أو باتخاذ القرار الحاسم للقراءة، فهناك ما أسميه الأعمال (الإجبارية) التي يجب أن يعتني بها القارئ الشغوف بالكتابة، ومنها كلاسيكيات الرواية والقصة والشعر والمسرح وأدب الخيال العلمي ونوادر كتب التراث والملاحم ككلكامش وألف ليلة وليلة.. وهناك الأعمال التي تُقرأ من أجل التذوق العالي والمتعة الخالصة، وهي بالنسبة لي كل ما يقع في أدب التصوف شعراً ونثراً سواء لابن عربي أو جلال الدين الرومي أو الحلاج أو لكل الشعراء المحدثين الذين كتبوا في هذا الباب. 
ولا أنسى روائع القصص القصيرة والروايات التي تجعل القارئ يتوارى خلف حلم يقظة يقلب الدنيا رأساً على عقب.. هناك أيضاً الأعمال التي تلبي فضولي في باب المعارف التاريخية والفلسفية والنفسية أو العلوم الفيزياوية والمخترعات الحديثة، إذ لطالما انتابني الفضول حول أي جهاز أستعمله في الحياة اليومية، فأظل أبحث عن أسراره حتى أفهم الطريقة التي يعمل بها هذا الجهاز. 
لو نظرت اليوم إلى الوراء، وكيف تطورت تجربتي مع  القراءة على وجه التحديد، لبدت لي تلك القراءات منظمة بالنسبة لفتاة لم تجد أولاً موجّهاً معيناً دائمياً لها، ولم تكن دراستها أدبية، وإنما علمية معنية بالأرقام والرياضيات ثانياً، مع هذا تجد أن ميولها وقراءاتها سارت بشكل مرتّب وشبه منهجي، فكانت تفضّل القراءة على الخروج مع الصديقات، وتواصل ساعات الليل بالنهار من أجل كتاب جيد ومفيد. كما تطورت حاستها لاختيار الكتاب الصحيح في الوقت الصحيح، وهي الحاسة التي عززها لاحقاً أولئك الأدباء ممن تعدّ بعضهم أساتذة لها وبعضاً آخر أصدقاء خلّصاً، ليأتي أخيراً زواجها من إنسان مهتم أساساً بالأدب قصةً وروايةً ونقداً، هو الدكتور “نجم عبدالله كاظم”، فيكمل سلسلة ظروف مؤاتية صادفتها في طريقها، وليضيف الكثير إلى هذا الطريق
الجميل. 
عشت مع هذه الاقتباسات عصفاً ذهنياً طوح بي في جهات عدة عند نقلها من دفترها الأصلي القديم إلى فايل ينفتح بنقرة إصبع على الحاسبة. أي عند نقلها من زمن الكتابة بخط اليد الناعم الأنيق، إلى زمن الكتابة التي تشابهت فيها حروف البشر على الشاشات العابرة للقارات.. ومع وجودي في مكانين مختلفين وزمانين مختلفين.. فقد صادفت نفسي في الاتجاهين، يحملني خط يدي إلى كلمات كتبتها بألوان وأقلام مختلفة حسب ما موجود في متناول يدي لحظة كتابة الاقتباس، ويجعلني الكيبورد ألملم وأجمع شتات ما فات وتبعثر خلال سنوات طويلة، فأجد نفسي أمام تلك القراءات التي كانت مختفية خلف ستار، وأسترجعها وكأني أحلم بها مرة أخرى، ومن ثم أجعلها أمامكم لتشاركوني حلمي على صفحات هذا الكتاب.. وهنا نصل إلى قصيدة بورخيس عن عصاه، فهو لا يعلم من هو الحرفي الذي صنعها ولوى مقبضها، لقد ضاع بين الملايين، ولن يلتقيا بشكل شخصي أبداً، لكن هناك صلة ما بينهما، وليس بالأمر غير الممكن أن يكون الكون بحاجة إلى هذه الصلة، فلا شيء ينتهي في الوقت الذي نظن أنه انتهى
فيه.  
وأخيراً فإن الناحل من الهوى إذا كنا لا نراه ولا نشعر به لولا مخاطبته أياناً، فإن هذا الدفتر المتيم بالكلمات أيضاً ما هو إلا صوت تجربة شخصية لم أخضعها لشرط من شروط الرؤية المنهجية، بل نقلتها كما هي من دفترها القديم إلى لوح المفاتيح في الحاسبة وشاشتها الضوئية، وإلى هذا أسترعي الانتباه عند المراجعة أو توجيه النقد، لمن يكون قد كدح وامتلك الصبر لقراءة مقدمة الكتاب.  
هذه الاقتباسات، وإن كانت لغيري، فإنها من الممكن أن تعبر عني بشكل وآخر، لأنها تتعشق مع جزء أو أجزاء من حياتي، أو لأني اخترتها ودونتها في مرحلة منها، فعبرت، بشكل ما، عن العبور من مرحلة لأخرى من مراحل النمو والتكون منذ المراهقة وحتى الإكتمال، ومع حرصي على الإبقاء عليها كما وردت في دفتر الاقتباسات.. فمن الطبيعي أن يكون اسم الكاتب المستفاد منه موجوداً، مع عنوان الكتاب في كثير من الاحيان، إلا عند نقل بعض المعلومات والملخصات والتعريفات المدوّنة من الكتب والدوريات الموثوقة مغبة أن أنساها، سواء في هذه الآونة من الزمان، أو في عصر لم يكن فيها (غوغل) ملاذ الحائرين موجوداً.. وكأنني آثرت أن تحضروا حفل التعارف هذا الذي تلتقون فيه مع بعض الكتاب الذين قرأت لهم، فأنوّه بهم أولاً، وأنّوه بأهم الزوايا والانتقالات في سيرتي الطويلة مع الكتب ثانياً. أما السيرة كاملة فغير مدونة سوى على أدراج النسيم لمئات الكتب التي قرأتها في الأدب والموسيقى والتراث والفكر والفلسفة والفيزياء والسياسة ومختلف الفنون
والعلوم. 
لا أعتقد أني نسيتها.. أو أن الزمان حذفها من صفحة وجودي.. فهي كطائرة عملاقة دخلت إلى غيمة جميلة فخرجت منها غرفة متواضعة، أو ككحل من مسحوق أجنحة الفراشة متروك على كل أوراقي التي ارتدت البدلة السوداء للكلمات بدلاً من لونها
الأبيض.