كيف كتب الشاعر المهاجر ذاكرته وحياته؟

ثقافة 2022/03/29
...

 استطلاع: صلاح حسن السيلاوي 
 
الغربة، المنفى، الهجرة، مسميات تجعل المثقف أمام مفترق طرق هي: سلطة الذاكرة، الواقع المختلف، اللغة الجديدة، صعوبة الاندماج في ثقافة مجتمع مغاير، العيش في الماضي، وما إلى ذلك من خيارات تواجه المبدع المضطر للعيش خارج بلاده.
وقد أفرزت هذه الغربة - على اختلاف مسبباتها - تنوعاً في حياة المثقف المهاجر وتطوراً أو اختلافاً أو انتكاساً في منجزه.
من هنا تساءلتُ في حضرة نخبة من شعراء العراق المهاجرين : ماذا قدمت ذاكرة المبدع العراقي له في مهجره؟ هل استطاع الخروج من ذاكرته إلى ذاكرة مماثلة بعد أنْ عاش بعيداً عن الأولى عقداً أو عقدين من الزمن؟ ألا ترون معي أنَّ عدداً من المبدعين المهاجرين مثلت لهم ذاكرتهم أزمةً للدرجة التي جعلتهم غير قادرين على الاندماج في مجتمعات وثقافات البلدان التي هاجروا إليها، أيمكن أنْ يصنع المثقف المهاجر ذاكرة جديدة موازية من دون الإساءة لذاكرته الأولى؟ ما الذي يلمع من ذاكرتك العراقية الآن؟ 
 
ذاكرة تصالح الأمكنة الجديدة  
الشاعر باسم فرات الذي عاش في بلدان أجنبيَّة وعربيَّة متعددة يتذكر في بدء رحلة المنافي، أنَّ ذاكرته تعمل بكامل طاقتها، رافضة أنْ يستحوذ المكان الجديد على مساحات من فضائها، فراحت تكتب مثل غالبيَّة شعراء وأدباء العراق، وربما العالم، بذاكرة المكان الأول، على حد وصفه، رافضًا أي مساحة للمكان الجديد.
وأضاف فرات موضحاً: كنت في عَـمّان، ثم في أقصى جنوب الجنوب، في نيوزيلندا أول بلد يستقبل شروق الشمس، ومع ذلك كنتُ أكتب برائحة البارود وطعم الطحين الأسود، ورعب رجال الأمن، والملاجئ والقصف، وأضفتُ للغتي هَمّ المنافي والشعور الحاد بالغربة. أمران وقعتُ ضحيتهما، الأول: تعلم اللغة الإنكليزيَّة التي دخلت البلاد وأنا أكاد أجهلها، وهي المفتاح الوحيد للدخول في المجتمع الجديد، وبدء حياة جديدة، بل من العار أنْ نحملَ جنسيَّة بلدٍ ما ولا نفقه لغته الأولى، لا سيما حين تكون هذه اللغة صاحبة المنجز التدويني الأكبر تراثًا وحاضرًا، أما الأمر الثاني، فهو شعوري بالعري والضعف أمام لغة المجتمع الجديد، في بيئة يندر فيها العربيّ حين وصولي في شهر أيار 1997، فضلًا عن ضعف شخصيَّة اللاجئ الثقافيَّة مهما عظمت، أمام قوة شخصيَّة مجتمع التوطين الثقافيَّة، مهما كانت الحالة الثقافيَّة ورائدتها اللغة من ضعف أو قوة، ولهذا حديث يطول.
وقال أيضاً: أمران تنازعاني، ما بين رغبة عارمة بتعلم اللغة الإنكليزيَّة، وبين خوف ورهبة من أنْ يؤدي هذا إلى فَقر القاموس العربي في مخيلة الشاعر الذي يسكنني، عانيت كثيرًا من الأمر، وتسببت السنوات التي درست بها الإنكليزية ومارستها عبر العمل المضني في مجال التصوير الضوئي “الفوتوغرافي”، إلى قلة القصائد التي كتبتها، فعلى امتداد ثماني سنوات ما كتبته أقل بكثير قياسًا بالأعوام الثمانية التي تلت مغادرتي “زي الجديدة”، وهو مؤشرٌ واضحٌ عندي سببه التنازع المذكور أعلاه.
وعن معاناته الشعريَّة مع ذاكرته وخيارات التصالح مع الأمكنة  قال مبيناً:  بعد سنوات على مغادرتي العراق، شعرتُ أنني استنفدت آنيًّاً ما تختزنه ذاكرتي شعريًّاً، وهذا يعني إما التوقف عن كتابة الشعر لعدة أعوام، حتى تنضج لغة أخرى، ورؤية مختلفة، تتميز بالهدوء، والتوغل إلى أعماق المكان الأول والذاكرة الأولى، فتَحذف أكثر مما تُدوّن، وتُلمّح أكثر مما تقول، كي لا أقع في ما وقع فيه معظم شعراء العراق الذين احتضنتهم المنافي، أو أتصالح مع المكان، وأُنشِئ ذاكرة جديدة، تتفاعل مع الذاكرة الأولى، وكلاهما يُغذي الآخر، من أجل إنتاج نَصٍّ شعريٍّ، لا يشبه أحدًا سواي، نَصٍّ يُحيل إليّ، على الأقل يكون متفردًا بلغته وأجوائه وذاكرته، بدلًا من ذاكرة جمعيَّة، تصلح للتعبير عن الهُويّة الثقافيَّة الوطنيَّة، ولا تصلح للشعر دائمًا.
قبل مرور عشر سنوات على خروجي من العراق، بدأت أتصالح مع الأمكنة، فاكتشفت جماليتها، وبدأت بقطف ثمار ذاكرة تحوي قصائد جديدة، تخلو من الاتكاء على ذاكرة المكان الأول، التي كثيرًا  ما خذلت الشعراء والساردين، لأنَّ ذاكرة المنفيّ تتوقف عند اللحظة التي غادر فيها المكان الأول، بينما المكان الأول يستمر بالحركة ويتعرض للتغيير، وأتذكر حين عدتُ للمكان الأول “كربلاء”، بعد غياب ثماني عشرة سنة وخمسة وعشرين يومًا، كيف لاحظت التغيرات التي طرأت، والتي ليس بإمكان كل فضائيات العالم أن تنقلها بدقة مثلما هي في الواقع.
 
حميميّة اللغةِ والأيّام 
الشاعرة فليحة حسن التي تعيش وتعمل في أميركا تؤكد في إجابتها صعوبة  انسلاخ المبدع عن ذاكرته مهما عاش في بلدانٍ أخرى قد تختلف تماماً عن وطنه، لكنه كإنسان حي يعمل جاهداً على أنْ يتعايش مع اليومي المتاح الجديد، فإذا ما أراد ان يواصل الكتابة والإبداع ركن الى ما هو مخزون في تلك الذاكرة من أحداث، فتكون ذاكرته حينها بمثابة المعين الذي لا ينضب في تواصل إبداعه، على حد وصفها. وتشير حسن إلى أنَّ عامل الزمن قد لا يشكل عائقاً في بقاء تلك الذاكرة، مستدلة على ذلك بقراءتها لمبدعين عراقيين وعرب عاشوا ردحاً طويلاً من الزمن في بلاد الغربة، وينتمي أكثر شعرهم وسردهم لذاكرتهم الأولى التي بُنيتْ في مرحلة الطفولة والمراهقة ويبدون في كتاباتهم تلك وكأنهم لما يزالون جزءاً لا يتجزأ من بيئتهم الأولى التي ولدوا فيها.
وأضافت فليحة حسن بقولها: أرى أنَّ الذاكرة لا تشكل الأزمة الأكبر في اندماج المبدع في ثقافات المجتمع الجديد إذا ما قورنتْ بعوائق أهم وأقوى مثل اللغة، أما صناعة ذاكرة جديدة من قبل المثقف موازية لذاكرته الأخرى من دون الإساءة للأولى الأكثر رصانة لقدمها، فهو أمرٌ ليس سهلاً ولكنه أيضاً ليس بالمستحيل وكل ما يحتاج  إليه المبدع كي يحقق ذلك الأمر هو الانفتاح على الآخر المتوفر والمتاح ومد جسور التواصل معه. 
أما بالنسبة لما يلمع الآن في ذاكرتي العراقيَّة فهو تلك الحميميَّة التي أفتقدها الآن وبشدة والتي كنتُ أحسُّ بدفئها أيّنما حللتُ، الحميميَّة التي كانت تنبعثُ إليَّ حتى من مفردات الكلام المحكي اليومي الصادر من كلّ من كنتُ ألتقي به ولو لقاء عابر. 
 
تذكرٌ فعال ونسيان قصدي 
الشاعر وديع شامخ الذي يعيش في استراليا أوضح في بداية رأيه مفهمومه الشخصي للذاكرة والمهجر معاً، كي يتجنب المماثلة مع الجاهز من التعريف والمتداول  العام عنه. مشيراً إلى أنَّ الذاكرة عنده ليست سجلاً أميناً لوقائع وأحداث حدثت في الماضي، يرجع المبدع  إليها  كتاجر أفلس ويبحث عن مديونيَّة في سجلاته القديمة، الذاكرة تشمل هذا السفر التاريخي للأفراد وخاصة المبدعين منهم، الذين يتعاملون معها كشلال هادر، يشكل لهم استفزازاً إبداعياً، وهي التذّكر الفعّال، الذي تقوده مجسات المبدع  في النسيان القصدي، أي أنَّ المبدع يتعامل مع خزين الذاكرة بطريقة القنص والانتخاب، هنا ستكون الذاكرة مصدر إلهام إيجابي بوصفها موضوعات وقرائن تندس في نسيج النص الإبداعي “سرداً، شعراً، فكراً، جمالاً”  لينتصب النص  بجناحين الذاكرة والراهن. على حد تعبيره .
وقال شامخ مضيفاً: أما عن المهجر، الذي ركبّ العراقيون سفينته بشكلٍ متأخرٍ جداً، قياساً إلى شعوب المنطقة، وخصوصاً المبدعين منهم، فقد شكلت هجرة المبدع اللبناني والمغربي نشوء أدبٍ خاصٍ أطلق عليه “أدب المهجر”.
المهجر عندي هو ليس لحظة “نستولوجيا“ مرضية تنتج دموعاً لا نصوصاً، المهجر نسبة لي هو “منأى “ جغرافي، تفجرت فيه   طاقتي الكامنة، لجملة من المحرمات السياسيَّة والدينيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، هذا التغير المكاني جعل مني صقراً أطير في الأعالي لأصطاد من ذاكرتي وحاضري ما يُضيء نصوص الرؤيا، تتناغم مع هارموني التلاقح الحضاري والتعددية الثقافية، “Multiculturalism” من هذا  الفضاء  جمعت بين ذاكرتي الفعّالة مع حاضر جديد، في مجتمع  يطلق أجنحة الإبداع  والمخيلة لتأسيس تجربتي  في الشعر والراوية والنقد، والتاريخ والتحقيق والحواريات، لقد أنتجت ما يقارب اثني عشر كتاباً في هذه الحقول، وهو رقمٌ مهمٌ في تجربتي  في الوطن التي أنتجت فيه مجموعتين شعريتين فقط.
وقال أيضاً: المبدع الحقيقي له مشروعٌ خاصٌّّ به، وإنْ تعددت حقول اشتغاله،  و المهجر “المنأى” جناحه الآخر وتجربته الوجوديَّة التي تشكّل ظهيراً معرفياً وجمالياً لمن يُحسن الموازنة مع هاتين الجوهرتين، وهو بهذا لا يسيء الى تاريخه وذاكرته، وما اصطفى منها، ليُشكّل مخلوقاته الجميلة من دون تشويه جيني مفتعل.
لا شك أنَّ  تجربة الاغتراب  شكلت عبئاً كبيراً وألقت بظلالٍ ثقلية على الكثير من المنتجين، وجعلت من المهجر غير المتفاعل معه، هروباً جارفاً للذاكرة، حتى صاروا ذاكرة فقط، حنيناً ومظلوميات ولافتات سوداء، لا يمكن لها أنْ تكون جزءاً من المشهد الإبداعي العراقي في المهجر -  المنأى، وتتحول الى ذاكرة المنافي النازفة  فقط.