الشعراء الصعاليك ثانيةً

ثقافة 2022/03/30
...

 طالب عبد العزيز
      
الى عقيل السيد زيارة
 تذهبُ مفردة (الصُّعلوك) بمعناها في اللغة الى أنه الفقير، الذي لا يملك شيئاً. لكنها اتسعت في بعض استخداماتها، مؤخراً، فشملت جماعة المتشرّدين واللصوص وقطاع الطرق، الذين خرجوا على طاعة رؤسائهم، ولم يخضعوا للأعراف القبلية، بل، ولا شأن لهم بها، إذا ما تعرضت القبيلة الى العدوان. والصعلكة حركة وصفت في بعض المصادر على أنها موقف اجتماعي وسياسي من المؤسسة بعامة، وعرفت الحياة العربية أجيالاً من الصعاليك، ليس أولهم شِظاظ الضبّي التميميّ، أشهر اللصوص في الجاهلية، مروراً بتأبط شراً والشنفرى وعروة بن الورد... وليس آخرهم توبة بن الحمير، أحد أبرز مشاهير العصر الأموي، ولم يكونوا شعراء كلهم، إنما برز فيهم الشاعر وغيرُ ذلك.  ولا أظنُّ شاعراً لم يخامره نزوعٌ الى الصعلكة، في مطالع حياته الشعرية، لا بمعانيها الكبيرة إنما بحدود ما تتيح له دائرته الاجتماعية، ففي الحياة تلك ما يحرّض على المغايرة، ويدعو الى المفارقة، ومحاولة الظهور المختلف. وتنفرّد ثقافتنا العراقية الحديثة بأكثر من شاعر، ممن ضاقت بهم حياتهم، أو ممن وجدوا في الصعلكة أرواحهم الشاعرة، وبينهم من رهن فلسفته في الجانب هذا، فصارت حياةً وسلوكاً له، وخير مثال على ذلك الشاعر النجفي عبد الأمير الحصيري، أشهر صعاليك بغداد في القرن العشرين، الذي انسلخ تماماً عن حياتنا، فهو لا يرى بغداد إلّا مدينةً عباسيةً، يلتقي بخلفائها وشعرائها وقيانها متى شاء، والأمر لا يتطلب عنده أكثر من كأس خمرة وقصيدة وزقاق يسكنه مخموراً.  مع أنَّ الحصيري دخل بغداد فتىً حيّياً، لا يكاد يرفع بصره لأحد، إلّا أنّه جاءها فاتحاً، فهو الشاعر المقتدر، يسبقه اسمه، وتتقدمه قصائده، فهو الثري بلغته، الذي يخشاه أنصاف الموهبين، ويرتعد منه الطارئون على الشعر، وكلهم يتذكرون جلوسه في مقاعد اتحاد الأدباء الأخيرة، وهو يصوّب أخطاء بعضهم، بصوته الخشن الجهوري. نقول هذه ليعرف كل من يروم امتهان الصعلكة في الشعر والحياة، وماذا يعني أن تكون شاعراً صعلوكاً. من يقرأ الشنفَّرى في لاميته (أقيموا بني أمّي صُدورَ مَطِيكمْ*** فإني إلى قومٍ سِواكمْ لأميلُ)، ومن يقف عند حكمته في مفارقة ونبذ الأهل والقبيلة، وتفضيل العيش مع الوحوش في البرية، وما في القصيدة من النبل والسمو الإنساني، فضلاً عن متانة ورصانة اللغة سيعرف المعنى الكلي للصعلكة، وفي تراثنا الشعري والإنساني عشرات الأسماء، التي تركت مآثرها بيننا. معلوم أنَّ عبد الأمير الحصيري، الشاعر كان قد عمل مصححاً لغوياً في مجلة وعي العمال، هو الذي لم يكمل دراسته الثانوية، ثم أنه انتقل للعمل في مجلة الإذاعة والتلفزيون مصححاً أيضاً. ولأنه كان كذلك فقد وصف أحدهم لحظة موته قائلاً: «لقد رحل بعبع الشعراء»، في إشارة الى الذين يتقونه في شعرهم. وهو الذي كان على دراية كبيرة بتاريخ بغداد، والذي كتب القصائد الطوال، التي جمعت في كتب عدة، نشرت بعد وفاته، فضلاً عما ضاع منه، في رحلة تشرّده المعروفة.في الربع الأخير من سبعينات القرن الماضي، وفي مبنى ما من مباني الليل بالبصرة، صحبة أحد الأصدقاء جمعتني وعقيل السيد زيارة، الشاعر، والطالب في كلية الآداب آنذاك، طاولةٌ صغيرة، عليها ما عليها من الأشربة والطعوم، كان عقيلٌ هذا قد احترق باكراً بنار اللغة والشعر والعروض والصعلكة، وهو المُجيدُ المشهودُ له في ذلك. ما كنت يومها متمكناً من لغتي، لكنه سألنا، بصوته الأجش الواثق: «أيكما الشاعر»؟، فأسررتها في نفسي، ولم أجبه. لم ألتقه إلا في أخريات أيامه، أتذكره اليوم عند واقعة شعرية غير مماثلة. رحمه الله، يوم ولد شاعراً ويوم مات على مواقفه النبيلة، ويوم لم تكن الصعلكة فقراً في اللغة
والشعر.