بيروت وسِرُّ العواصم الثقافيَّة

ثقافة 2022/03/30
...

 الحسام محيي الدين   
لا تكتسب العواصم حضورها الثقافيّ بقرارٍ سياسي، إنما بالحَدْس المجرّد الذي يتكورُ على كل فاصلةٍ مَدِينيّة في الخاصّ والعام، والذي يمزجُ الأصالة بالحداثة كعنصرٍ أساس في قيادة أية منظومةٍ معرفية، عربية تحديداً، إلى النجاح. بهذا المعنى كتبَتْ بيروت مناخها الرّيادي بثقة وكفاءة فكانت بيروت نشيداً جميلا في شاعرية النخبة الطليعية للشعراء العرب و»ملهمة الشعراء» كما تقول لميعة عباس عمارة، ومَنْجماً غنياً بأسرار الرّيادة الفكرية شكلا ومضمونا. 
 
تعانقت القِيَمُ الحياتيةُ اليومية لتحفرَ في تاريخ بيروت القديم والحديث فشملَتْ ثقافةَ كلِّ تفصيلٍ صغير في المأكل واللّباس والسّمْت والحضور والعلاقات، من التسريحة والجينز ولباقة الحديث والتصرف في الشارع والمنزل، مع الأهل والأبناء والزوجة والصديق والجار والحبيبة وسائق التاكسي، عطفاً على عُمْقِ العناوين التقدمية التي حملتها الجلسات كيفما عُقِدَتْ في أيّ مقهى، مطعم، كافيتريا، أو ربما «سناك» صغير بين متحاوِرَين على كرسيّ عاديّ أو على «فوتيل» مُزخرَف برفقة القهوة، الشّاي أو ما قد يُشرَب في لحظاتِ قراءةِ كتابٍ أو جريدةٍ أو منشورٍ اجتماعي أو سياسيّ. انبسطَ كلُّ ذلك بالفِطرة فلمْ تعلَم ساكنةُ تلك المدينة بل ولم يتنبّه أُناسها يوماً إلى أنّ طبيعة حياتهم تلك هي مما يعقِدُ لواءَ الثّقافة الريادية لمدينتهم ومِمّا يؤكِّد عراقتها النّخبوية الطليقة جداً بالمعنى الشخصي في حرية القول والتعبير وقبول الاعتقاد المختلف والتفاعل معه كما هو. 
كانت بيروت ساحة كوزموبوليتية في سياقاتها التاريخية/ المَدينيّة منذُ القِدَم، وورشةً نشطةً تنافسية في المعارف بين جنسيات مختلفة أوّلها وأبرزها أوروبي كاثوليكي وأميركي بروتستانتي، قدّمتْ نفسها كإرسالياتٍ في خدمة هدفَين:  تبشيري، وتعليمي، فشلِتْ في الأوّل بمُمانعة حواضر المذاهب الأُخرى، لكنها نجحتْ جدّاً في الثاني بأنواع العلوم ومُلحقاتها من أولى المطابع في الشرق تأليفاً وترجمة إلى المدارس والصّروح العلمية التي كرّستْ، شئنا أم أبينا، معطًى حضارياً لفكرة التعلُّم والتّعليم كمدرسة “عين وَرَقَة” أوّل مدرسة حديثة مُنظّمة في الإقليم، والجامعات (الأميركية، اليسوعية) التي وسّعتْ جمهور المنافسة في الإقبال على تحصيل العلم. بهذا الاندفاع استمرّ تألُّق هذه المدينة: مركزاً متوسطياً لأرتال الصحافة الحرة بلُغاتها المختلفة وإنتاج المعلومة الصحيحة وحرَكية النّشر النوعيّ، مَشفى العالم العربي، مصرفهُ الذي يُهرِّبُ إليه عِلْيَةُ القوم أموالهم من كلّ ناحية، وجهة المُبدِعِين الذين يأتون إليها لأخْذِ الشّرعية  فيها ومنها. كانت الكفاءات هي الثروة، العُمدة،.... والحلّ، ورافعةً دائمة للمُنجَز الثقافي العربي بأجناسه الأخّاذة، من نشأة المسرح مع مارون النقاش منذ عام 1847 ثمّ مع ابن أخيه سليم في القاهرة، هذا الفنّ الذي لم تعرفه بعض العواصم إلا بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على ولادته البيروتية، إلى سِفْرِ التّرجمات المُبكِرة، حتى حداثات مجلتَي شِعر والآداب الشهيرَتَين في الفكر والشِّعر، وليس انتهاءً بأوّل معرض للكِتاب العربي في الشرق الأوسط وقد أصبحَ جزءًا من تاريخ لبنان والعرب وهو يدخل عامه الثالث والستين هذه الأيام. 
كانت كل تلك الأنساق النهضوية عفوية جداً، طبيعية حقّاً، تفهمُ نفسها كما يجب ولا تخجلُ من فشلها بل تعيدُ ترتيبه بمفاتيح الأسئلة وآفاق التجريب، وتفكِّرُ دائماً بتقصّي واستشكال ما غَمُضَ عليها من مغازي الأدب والفن والاجتماع والفلسفة والتاريخ والسياسة في مهدها البيروتيّ أو ما وراء البحار. مُفارقتان دائمتان لطالما انبَنَتْ عليهما مُوجِبات التعليل الموضوعي لحالة بيروت الريادية: الأولى أنّ المال الذي لم يشكِّل يوماً السّبب الرئيس في الحَيَوات الأولية للبِنى الثقافية فيها، هو الذي عجزَ - برغم تدفقه الفاحش - عن تكريسِ مُدُنٍ ثقافية عربية مُنافِسة وأقلّهُ مُوازية، أما الثانية فهيَ أنّ المجتمع اللبناني الذي اختلفتْ طوائفه دينياً ومذهبياً حدَّ الاقتتال في الحرب الأهلية ظلّ يعيشُ في الواقع فاعليةً فكرية متقدِّمة عن محيطه من المجتمعات العربية الأُخرى ذات الدِّين الواحد. نستدركُ هنا بما هو غنيٌّ عن البيان أنّ مدناً كالقاهرة ودمشق وبغداد كانت حواضر علمية راسخة في تاريخنا الحديث بشكلٍ أو بآخر، فكانتْ مِصر مثلاً مَعْلَمَة حضارية فعلاً وتفاعلاً في تاريخ الشّرق تحت لواء أُسرة محمد علي التي تداولت بالتّتابع دوراً تنويرياً حقيقياً بدءًا بالترجمات والبعثات العلمية الشهيرة وليس انتهاءً بتطوير أجناس العمران والاقتصاد والإدارة والعلوم المختلفة أيام الخديوي اسماعيل، لكنّ أدوار هذه العواصم انحسرتْ مع وصول الاستعمار الغربي الذي ما إنْ تخلّصتْ منه فعلياً في فترات متفاوتة من القرن الماضي حتّى وقَعَتْ في مأزق كبير جسّدهُ حُكْمُ الفرد الأوحد الذي أفرزته المنظومات العسكرية الشمولية بصِيَغٍ انقلابية وحتى اليوم، ما أفقدها حُرِّية القول والفعل لعقودٍ طويلة في المشهد الثقافي العربي في الوقت الذي كانت فيه بيروت وبالتوازي تُمارس ديمقراطيتها البرلمانية.  بيروت المُتحوِّلة دائماً في السياسة، فلا شيء فيها اسمهُ رئيسٌ إلى الأبد، ولا سلطانَ مُعظّم في ذاكرتها ولا مَلِك مُفدّى، بل تداولٌ للسُّلطة يتجدّدُ فيه مفهوم الحريات التي بنَتْ مُواطِن الرّوح السّهلة بكل تناقضاته الجميلة، الذي، وفي وقتٍ واحد، جعلَ من مدينته مَصْيَف العرب وملهاهم. 
والمركز العربيّ الأوّل لفدائيي منظمة التحرير في مواجهة اسرائيل، ومحور التقاطع العَقَديّ لأفكار العرب المُتعلقة بطريقة النضال بعد تقسيم فلسطين وهزيمة 1967، والذي طردَ “اسرائيل” من شوارعها عام 1982 ببندقيةٍ وطنيةٍ لا طائفية. امتياز بيروت أنها قدمت براءة اختراع شرعية لفقه الحوارات بين العرب أنفسهم وأنها خدمت إنسانيتهم فلم تتأخّر يوماً في فتح أبواب اللّجوء السياسيّ لِطَرِيدي الرأي والفكر والموقف كعاصمةٍ ثانية زَها مُعظمهم بانتسابه إليها عضوياً وروحياً في أكثر مراحل حياته عملاً وعطاء، كما لم تكن كعب أخيل لاغتيال أُمّتِهِم ورؤاها الطموحة في رسم الثقافة العربية المقبلة.