حداثة العقول

ثقافة 2022/04/01
...

  باسم الأنصار
 
لا يمكن لأي مجتمع يرغب بالنهوض من واقعه المرير نحو الحداثة والتنوير أن يتمسك بهويته القديمة، لأنّ الحداثة فعلٌ مستقبلي، بينما الهوية بمفهومها التقليدي، فعلٌ ماضوي. مفهوم الهوية السائد هو العودة الى التراث فقط، بينما المفهوم الآخر للهوية المرتبط بالحداثة هو الانطلاق نحو المستقبل. وهذا الانطلاق نحو المستقبل يعني مفارقة جسد الماضي والاحتفاظ بروحه ثم الاندماج في المستقبل والمجهول. من هنا تتشكل الحداثة ومن هنا أيضاً يتشكّل مفهوم الهوية الجديد.
هذا الأمر ينطبق على مفهوم الهوية بأبعادها الفنية والشعرية والأدبية والجمالية، وكذلك ببعديها الديني والاجتماعي. ولكن هذين البعدين أصبحا ضحيةً لأكبر كذبة في تاريخ المجتمعات العربية المعاصرة، ألا وهي كذبة المقولة الشائعة التي تقول بأنّ هذه المجتمعات تريد ارتقاء موجة الحداثة ومجاراة الحضارة العالمية المتحركة بسرعة والمتقدمة بقوة نحو المستقبل، ولكن على شرط التمسك بالقيم الدينية والاجتماعية للمجتمع. هذا هو الهراء بعينه، لأنك لا تستطيع امساك العصا من الوسط في العديد من القضايا، ومنها هذه القضية. فإما الحداثة والتنوير ومواكبة الحضارة الجديدة، وإما البقاء في خانة القيم الدينية والاجتماعية المألوفة والسائدة. فإن أردت العيش في مدار القيم الدينية والاجتماعية المتوارثة (ولك الحق في ذلك طبعاً)، فعليك أن تتذكّر بأنك لن تركب موجة الحداثة. وإن أردت مجاراة حداثة العالم المعاصر، فعليك التخلي عن القيم الدينية والاجتماعية المتوارثة كلها أو غالبيتها أو على الأقل عليك إعادة قراءة هذه القيم بما يناسب المجتمع وبما يناسب اللحظة التاريخية التي يعيشها هذا المجتمع.. 
نعم الجمع بين الحداثة والقيم الدينية والاجتماعية هراء. إنه هراءٌ يشبه هراء الدساتير العربية التي تنادي بالقيم الديمقراطية والمدنية والعلمانية ولكنها تطالب في الوقت نفسه بأن تكون الشريعة الاسلامية، المصدر الأساسي للدستور. هذه أيضاً من القضايا التي لا ينطبق عليها مبدأ امساك العصا من الوسط. فالعلمانية التي تعني فصل الدين عن الدولة في الحكم، والتي تعني كذلك حماية الدين ورعاية المتدينين في داخل الدولة ولكن على شرط عدم خلط الدين بسلوكيات الدولة لا يمكنها أن تكون علمانية ومدنية إن أدخلت الشريعة الدينية معها في إدارة شؤون الدولة. فالدولة تقوم بتوفير الأمن والخدمات بالطريقة التي تناسب المجتمع واللحظة التاريخية المعاصرة التي يعيشها المجتمع من دون الاستعانة بشرائع الأديان التي يعتنقها الشعب. ولهذا فإنّ أي مادة دستورية تطالب بأن تكون الشريعة هي المصدر الأول أو الأساسي للدستور هي ضربة بالصميم لمفهوم الديمقراطية والعلمانية والحداثة.
من جهة أخرى، أنّ تحديث البناء والمدن لا يعني بالضرورة حداثة العقول. فالتحديث شيء والحداثة شيء آخر. كل تحديث هو جزء من الحداثة، ولكن ليس بالضرورة أن تكون الحداثة جزءاً من التحديث. من الممكن أن ينطلق التحديث نحو الحداثة، ولكن على شرط أن يكون هناك سعياً حقيقياً وجاداً للتخلي عن مفهوم الهوية التقليدي شيئاً فشيئاً للالتحاق بالحداثة.
ومن جهة أخرى أيضاً، لا سلطة للدين ولا للطائفة ولا للعشيرة ولا حتى للأسرة على الإنسان وحريته. هذا الشرط الأهم للحداثة. فإن كنت تريد النهوض والحداثة لمجتمعك، عليك أن تطلق العنان للحرية وأن تهشّم جميع القيود التي تكبّل طاقاته الخلّاقة، وأهم هذه القيود، هي المحرّمات الدينية والاجتماعية والسياسية. من هنا، ينبغي أن يصاغ مفهوم الهوية من جديد. ينبغي أن لا تكون الهوية مرتبطة بالقيم التقليدية، وإنما ينبغي أن ترتبط بكل فعل خلّاق وجديد. أي أن تنجز قصيدةً جديدةً أو أغنيةً جديدةً أو قيماً جديدة، فهذا يعني أنك امتلكت هويةّ جديدةً. ولهذا الهوية فعل مستمر لا يعرف التوقف مثل الشلّال. وهذا ما ينبغي أن نتبناه (إن أردنا) النهوض بالمجتمع للوصول الى قيم الحداثة الحقيقية.