تسويقُ الثقافات

ثقافة 2022/04/01
...

  محمد صابر عبيد
يحظى مصطلح «التسويق» بعناية كبيرة من لدن المشتغلين في الحقل التجاري والصناعيّ والزراعيّ بطبقاته كافة، وغالباً ما يرتبط مفهوم هذا المصطلح بالبضاعة ذات الطبيعة «العَينيّة» التي تحتاج إلى فعاليّة التسويق في أعلى درجاتها، غير أن التسويق حين ينتقل إلى فضاء البضاعة غير العينيّة فلا بدّ من استيعاب هذه الفكرة وتفهّمها والتعامل معها على نحو دقيق وأصيل، وحين يتصل هذا الفضاء غير العينيّ بـ «الثقافة» فإن استيعاب الأمر يكون أكثر تعقيداً والتباساً واشتباكاً، على الرغم من أنّ التسويق الثقافيّ له مردودات ماديّة ومعنوية على قدرٍ عالٍ من التأثير والأهميّة والخطورة، على صعيد الترويج الثقافيّ والفهم والإدراك ومعرفة الآخر؛ وانعكاس ذلك كله على الفعاليّات التجارية المختلفة حيث تصبح أكثر حراكاً وتطوراً وإنتاجاً بعد نجاح التسويق الثقافيّ.
 
تتقدّم الثقافات - في سُلّم أولويّات التسويق- إلى أعلى درجات الحاجة والقيمة والحراك والتأثير، وذلك لأنّها المفتاح المركزيّ الأصيل لأشكال التسويق الأخرى كلّها بلا استثناء، فلا يمكن لشعب معيّن يمتلك دولة مهمّة تنشد التطوّر والتقدّم عن طريق التعامل الحيويّ مع دول الشعوب الأخرى من دون تسويق ثقافيّ، يشمل القدرة على إيصال ثقافة الأمة والدولة والشعب إلى الشعوب الأخرى عن طريق الفن والأدب والإعلام بالدرجة الأساس، إذ إنّ الأرضيّة الثقافيّة تؤسّس فضاءَ تلقٍّ يسهّل فعاليّة مرور أشكال التسويق المختلفة ذات الطبيعة التجاريّة العمليّة، فحين نعرف على نحوٍ ما لغة هذا الشعب وأدبه وفنّه وتاريخه وحضارته فإنّ هذا يشجّعنا على التعامل مع منتجاته الأخرى غير الثقافيّة، لتكون الثقافة هي البوابة الكبرى التي تمرّ منها التجارة بنشاطاتها المختلفة من غير عوائق كثيرة تعترض عادةً هذا السبيل.
يمكن للثقة التي تتولّد من طبيعة ثقافة الشعب أن تسهم في توسيع مجال العمل والإنتاج عن طريق هذه الثقة كي تشمل محاور أخرى ينتجها هذا الشعب، إذ لا يمكن أن نثق بثقافة شعب مثل الشعب الياباني على سبيل المثال من غير أن نثق بصناعته، فالثقافة منجز حضاريّ يشمل أركان العمل الصناعيّ والزراعيّ والتجاريّ والتقانيّ وغيرها بلا استثناء، ولذا نجد أنّ الدول المتحضّرة تسوّق ثقافتها قبل تسويق منتجاتها الأخرى حيث ينجح التسويق الثقافيّ في الترويج لمختلف الصناعات لاحقاً، فلا تسويق ناجح لأيّ شعب قبل التسويق الثقافيّ الذي يصنع الثقة ويؤسّس لمسارات عمل صحيحة وفعّالة على الأصعدة كلّها، وما هذا التقدّم الذي تشهده دول عديدة في هذا المجال سوى نتيجة طبيعية وأكيدة لنجاح تسويقها الثقافيّ أولاً.
يمكن تصنيف التسويق الثقافيّ على ثلاثة أنواع مركزيّة رئيسة؛ يتقدّمها التسويق الفنيّ، ويشمل هذا التسويق السينما والدراما التلفزيونيّة والمهرجانات الكبرى الغنائيّة والمسرحيّة السنويّة وغيرها، وهي تقريباً الأعلى كعباً في قدرتها على تمثيل ثقافات الشعوب من حيث قوّة تداولها وتواصليّتها، ومن حيث سهولة تلقّيها نسبياً على مختلف المستويات لما تنطوي عليه من عنصر تسلية تشجّع المتلقّي على استقبالها، وليس أدلّ على ذلك من تأثير السينما المصرية منتصف القرن الماضي على الثقافة العربيّة بمختلف طبقاتها، على النحو الذي جعل اللهجة المصريّة على سبيل المثال معروفة في أرجاء الوطن العربيّ كافّة.
يمكن معاينة التسويق الأدبيّ عن طريق المهرجانات الأدبية التي تطال صنوف الأدب جميعاً مثل الرواية والشعر والقصة وغيرها، إذ تلتقي فيها النخبة الأدبيّة ويُثار حولها كثير من الجدل في طبقات مختلفة تثير العناية والاهتمام، وتوجّه الرأي العام نحو فضاء تسويقيّ يرتقي في سُلّم التسويق إلى مرتبة نوعيّة شديدة الخصوصيّة، وأسهمت معارض الكتب الدوليّة مؤخّراً في تسويق ثقافيّ واسع وكبير تحوّلت فيه هذه المعارض إلى مناسبات للتسويق الثقافيّ، إذ تعمل دور النشر في كلّ بلد عربيّ بقوّة وكثافة ووعي على انتشار الكتاب والترويج له بما يحقّق عائداً شديد الأهميّة على مستويات تجاريّة أخرى.
يصعد التسويق الإعلاميّ والميديّ الآن إلى أعلى درجات التسويق الثقافيّ لما تحتلّه الممارسات الإعلاميّة والميديّة من أرضيّة شاسعة بلا حدود في العالم بأسره، فضلاً على قوّة التداول والانتشار التي توسّع من حجم التفاعل إلى درجة عالية شديدة التأثير والتفاعل، بحيث تصاعد مستوى العائد الماديّ جرّاء هذا التسويق إلى طبقات مذهلة تتجاوز الحدود المُتعارَف عليها، ليكون هذا النوع من النشاط التسويقيّ ذا أثرٍ يتفوّق على غيره من أنواع التسويق الثقافيّ، ويتحوّل عائده الماديّ والمعنويّ إلى رصيد هائل يتخطّى التصوّر والتوقّع؛ ويلهب الحماس باتجاه الاندفاع نحوه والعمل في حقله وتسخير كلّ ما يمكن تسخيره لأجل ذلك.
أصبحت دول العالم المتحضّر والمتمدّن والمتطوّر الآن تنظر إلى قضية التسويق الثقافيّ بوصفها قضية ستراتيجيّة كبرى، وتندرج في الأولويّات المتعلّقة بالمستقبل في النظر إلى الأشياء والتعامل معها بروح من العزيمة والعقلانيّة والعلميّة، بما يضمن لها تواصلاً فاعلاً مع الآخر في ظلّ تنافس شديد يصل حدّ الصراع على النفوذ والمصالح، وكلّما كانت النظرة إلى قضية التسويق الثقافيّ مستمرّة ومتطوّرة ومنتِجة؛ أنعكس هذا إيجابيّاً على البعد الحضاريّ للأمّة والشعب والدولة والإنسان، فصار التسويق الثقافيّ اليوم العتبة الأكثر حضوراً وممارسةً لبلوغ أقصى مرحلة من مراحل التقدّم والتطوّر والهيمنة على السوق العالميّة بمختلف مفاصلها وفعاليّاتها.