الجاحظ وضياع المعاني

ثقافة 2022/04/01
...

 مهند الخيكاني 
 
أتساءل، إذا ما كانت حقا «المعاني مطروحة في الطريق»؟ وما خطورة اتخاذ مثل هذا القول قاعدة من قواعد الكتابة الإبداعية الحقّة؟ وما نوع المعاني تلك المشار إليها في تلك المقولة الشهيرة؟ 
يبدو أن التمسك بمثل هذا القول الشهير للجاحظ والتماسه كقاعدة في الكتابة الإبداعية، ينطوي على مخاطر شتى بلا أدنى شك. أولها، أن أغلب المفسرين لها يرجّحون كفة البناء الجملي على أهمية المعنى. وثانيها، لا يختلف عن الأول، إلا أنه يعتقد أن المعنى مجرد شيء عابر، وأحيانا هو خلاصة محتّمة ما دامت الكلمات مرصوفة جيدًا، وعادة ما يميل أصحاب هذا الرأي الى اللغة العالية لتعزيز تلك القناعة. وقد تحدثت عن تشظي وتشوه هذا المفهوم لدى الكثيرين، في مقالة سابقة. 
بالنسبة لي، أراهما على قدر واحد من الأهمية، أي: المعنى والمبنى. أولا. ثانيا: يجب أن نتفطن إلى أن صاحب هذا القول، هو رجل ذكي بل وحاد الذهن، ومؤلفاته تشهد له بالاختلاف النادر عبر تقلبات الزمن، ومقصدي من ذلك، ما يراه الجاحظ من معانٍ مطروحة في الطريق، هو غير ما يراه شخص آخر! ولعل الجاحظ ورط الكثيرين من دون أن يقصد. فكما تعلمون أن الإمكانات الذهنية والطاقات العقلية والروحية متباينة بغض النظر عن أسبابها البيولوجية وجذور مشاربها المعرفية التي شكّلت هذه التركيبة. نعم أنا أريد القول هنا: بأن الجاحظ قال ما قال على افتراض مسبق، إنه قال ذلك مجرّدا من نفسه الى مصاف الحقيقة الواضحة التي عليها الأمور. ولكن الحقيقة بالنسبة لي على الأقل وخصوصا في ذلك الوقت الذي لم يشهد مناهج ونظريات مثل الآن تثير نزعة التخصيص والاستقلالية بين أدق التفاصيل، أن الجاحظ رأى ما رأى وفق حواسه هو، وإلا كيف للمعاني أن تكون مطروحة في الطريق وهو الملتقط لأجودها؟، فإذا كان الأمر غير الذي أشرت إليه، فلماذا لا نرى أكثر من جاحظ غير الذي نعرفه؟ 
إذن هو لا يقصد أية معانٍ، وهذا ما يتطلب بالإضافة الى الموهبة، سعة الاطلاع والمواظبة على ممارسة ذلك الفن. أقول: فن. لأن مثل هذا الكلام ينطبق على كل الفنون. هناك فكرة وهناك أداة تعبر عنها. وعندما يرى الجاحظ أن مصير المعاني مصير محسوم وينضم الى عائلة البداهة، فذلك ليس لجميع المعاني لا، ولا لجميع من يستورد المعاني على علّاتها. 
أنا مع هذا القول كقاعدة في حالة واحدة لا غير، عندما يكون الفنان قد بلغ من الوعي والإحاطة وإدراك ما حوله من العالم والناس والأشياء، وله القدرة على فهم الشائع والهامشي، وتفكيك الظواهر، ومعرفة موضع هذا الجزء من ذاك الكل المحاط بكلٍ آخر. أغلبنا تعلّم ذلك بالممارسة من دون فهم دقيق لما يحصل في هذه العملية من الداخل، فيصبح الوضع شبيهًا بالممارسة والخبرة المتواضع عليها، فراح يجرب بينها.
 إذن، يجوز للكاتب/ الفنان أن يركّز على أدواته أكثر، عندما يصبح من البديهي أنه ملتقط بارع وماهر في المعاني والأفكار، ويصير بمقدوره ببساطة أن يستحضر الجيد والسيء من الحياة والكون، وبفهمه نفسه يستطيع أن يحول معنى متهالكًا الى معنى عميق وساحر، ليس لأنه عبّر عنه بلغة وصياغة متفوقة، إنما لأنه مفكر أيضا ومتأمل ومتفلسف اغلب الأحيان، استطاع إحالة البسيط والمهمل والتافه وغيره الى عمل فني له جذر معرفي وجمالي. 
في النهاية أرى بأن الفنان عبر الممارسة الطويلة، تصبح أدواته رصينة، كشيء حتمي، عبر التراكم والتواصل والاستمرارية، وهو ليس بأمر عجيب، إنما أذهب الى عكس ما ذهب اليه الجاحظ، بأن المبنى هو الذي مطروح في الطريق، طريق الممارسة الطويلة والخبرة كما أسلفت. والمعاني هي من تحتاج الى كل الدراية والخبرة والاطلاع والتجديد المستمر. فكم من فنان، ثابت الأسلوب وثابت المعاني، مبهر أول أمره، ولكنه صار يستهلك جماله الأخاذ بنفسه، حين ظل يدوّر ما لديه بما كان قد بدأ به؟ وكم من فنان ثابت الأسلوب، متغير الأفكار والرؤى، وهو أكثر حياة من الاول، وأطول بقاء وقبولا، وكم من متغير الأسلوب متغير المعاني، استطاع ان يوازن في قفزاته بين الطرفين، ويحقق تجربة غنية؟ 
سواء أ كانت المعاني مطروحة أم لا، القياس بالدرجة الأساس يعود الى القارئ الجيد لما حوله. كما وأن الاهتمام المبالغ به في الأسلوب من شأنه رفع العمل الفني على محتواه حتى تصبح بينهما هوّة شاسعة، تشطر العمل شطرين وتقدمه الى المتلقي على أنه جسم واحد، بينما هما منفصلان، الى جسد وروح يجمع بينهما إطار النص. إذن، لا يمكن تعميم مثل هذا الفهم على الجميع كشيء من البداهة والقناعة أيضا؛ لأنه يحمل شرطا صارمًا يختفي خلف تلك العبارة القصيرة، وهذا الشرط يتمحور حول الإمكانات الذهنية المتفردة التي يطورها الفنان بكل تصنيفاته كي يصبح على درجة من الوعي مسنودًا بالدراية ومدعمًّا بالتجربة، لتحقيق أعلى مستوى من الالتقاط بيسر، بعدها يمكننا الحديث عن معانٍ مطروحة في الطريق، وتحويل الانتباه بشكل كلّي الى كيفيات إخراج تلك المعاني بأجمل قالب من اللغة والتركيب والإيقاع. فضلاً عن أن هناك مشكلة أكبر تحدث بسبب الفهم القاصر لمثل هكذا آراء، آراء تخص الكتابة التي تميل الى اللغة الخفيفة والرؤيا، أو تلك التي تُعنى بما ذكر آنفًا، هي حشود المنضمين إلى أحد الجانبين من دون تمعن وتأمل فيهما، ليظهروا بأسوأ صورة ممكنة تمثل الجهة العائدة اليها، فترسّخ انطباعات سيئة لدى المتلقي، من شأنها إثارة الآراء الحادة حول طرق الكتابة المتباينة.