الأب الغنيّ

ثقافة 2022/04/03
...

 عبد الرزاق بو كبّة *
لستُ عراقيّا يُتاح له أن يعيش اللّحظة العراقيّة من الدّاخل أو لنقلْ يُفرض عليه ذلك؛ لكنّني أتوقّع، بناءً على معطيات موضوعيّة كثيرة وصلتني أو توصّلتُ إليها، أنّها لحظة شعريّة بالدّرجة الأولى، فهي لحظة وجوديّة مكثّفة تاريخيّاً، ما أدّى بها إلى إنجاب علامات شعريّة فارقة في القديم والحديث. وتحتاج الى ذات كاتبة داخل هذا السّياق الشّعريّ تُراهن على السّرد؛ لا سيّما في جانبه القصصيّ، إلى عبقريّة خاصّةٍ من أجل أن تتعمّق وتتفوّق وتفرض مسارها وخيارها، بعيداً عن الاستسهال والابتذال؛ وهذا ما تحلّى به “أبونا” محمّد خضير.
لقد سبح أو سار أو حلّق “أبونا” عكس التّيّار، منذ نعومة أظفاره السّرديّة، من زاوية الانتماء في الكتابة إلى النّثر لا الشّعر، وفي النّثر اختار القصّة لا الرّواية؛ وبقي وفيّاً لها على مدار ستّة عقود؛ صامداً في وجه كلِّ الإغراءات الرّوائيّة، علماً أنّ كلّ قصّة من قصص “أبينا” هي مشروع رواية مكثّفة حتّى لا أقول مجهضة؛ أي أنّه لم يبقَ وفيّاً للقصّة عجزاً عن التّخييل الرّوائي؛ بل مراهنةً على القصّة القصيرة بصفتها رؤية للوجود وموقفا منه؛ وهو في عمقه وجوهره ومنطلقه ومنتهاه موقف فلسفيّ وشعريّ؛ من ثم أستطيع القول إنّ محمد خضير كان وفيّاً للسّياق الشّعريّ العراقيّ من هذا الباب؛ أي من باب الكثافة/ التّكثيف لا من باب التّجنيس.
قرأت للأستاذ معظم ما كتب؛ وحين التقيته مرّتين في الخليج العربيّ؛ قبل سنوات؛ وجدته يشبه قصصه في العمق الإنسانيّ وفي كثافة النّظرة وفي الحديث بالصّمت والانتباه. لقد كان ضمن النّخبة العربيّة المعاصرة السّبّاقة إلى إدراك أنَّ البياض في الكتابة لغة أيضاً، وإشراك للمتلقّي في العمليّة الإبداعيّة، فهو لم يكتب تأثّراً بمدرسة نقديّة جاهزة؛ بل كتب ما غذّى المدارس النّقديّة برؤًى ومقاربات جديدة. ولئن استطاع بعض الرّوائيين العرب، مثل نجيب محفوظ، أن يغذّوا السّينما والدّراما بأعمال رائعة؛ فإنّ التّجربة القصصيّة لمحمّد خضير تملك القدرة على تزويد المهتمّين بالأفلام القصيرة بأفكار مختلفة ومتميِّزة تماماً، بما فيها تلك القصص التّي كتبت قبل أن يولد هؤلاء؛ ذلك أنّ قصّة خضير تأمّلية لا انطباعيّة، وبصريّة لا تقريريّة، أي أنّها تُعنى بأعماق وأشواق الذّات البشريّة بما هي هويّة لهذه الذّات لا هوى؛ من هنا فهي تملك بعداً كونيّاً يجعلها قابلة لأن تنتقل إلى بقية اللّغات والثّقافات.
من هنا، نجد أنفسنا أمام هذا السّؤال: ما عيب التّجربة الإبداعيّة لمحمّد خضير؟ الإجابة: عيبها أنّها وُجدت ضمن سياق عربيّ لا ينتبه إلى التّجارب الأصيلة والعبقريّة. وإذا حدث أن انتبه؛ فهو مبدع في طمسها أو تسفيهها أو إهمالها أو انتظار تزكيتها من خارجه ليؤمن بها!
 
* روائي من الجزائر