ضرورات التجديد

ثقافة 2022/04/04
...

  ياسين طه حافظ
في نشأتنا الأدبية، كنا مزدحمين هوساً بأن نأتي بجديد، بأن نجدد، بأن نكون رواداً أو مهمين، وهو طموح جيد ويتفق وفورة الشباب والحماسات العظيمة للتغيير.. ولم يكن هذا في الآداب والفنون مفصولاً أو بعيداً عمّا يماثله في الفكر السياسي والتطلعات الوطنية القومية، كما كانت ثمة انبثاقة جليلة في الفكر الديني، كانت جريئة وجديدة على المألوف.
 
لكن المسائل لا تعطي أكلها بالأمنيات، بالنوايا والحماسات. هناك شيء اسمه الجدل، شيء اسمه  صراع الأفكار وقبلهما وحولهما مخاضات التقدم الاجتماعي.
العواصم الثقافية في العالم كانت عواصم سياسية أيضاً.. كان تنوع في لغات المثقفين، لغات شتى وناس مختلفون راغبون في معايشة الأجواء الفنية والفكرية الجديدة. امتازت تلك الحواضر بنواديها ومقاهيها الثقافية ومعارضها وناشريها. 
أجواء كانت تزدهر وتزداد ازدهاراً ووهجاً. الأنشطة الجمالية والاتجاهات الفلسفية تشق المتوارث الذي صارت مجتمعات هذه المدن تتململ منه. الرغبة في الجديد، لا في جديد الأدب أو جديد الفن وجديد الأزياء حسب، هي أصلا رغبة أوسع في حياة جديدة وعالم جديد، وبهذا الاتجاه كانت التوترات الفكرية مواكبة لحركات التجديد.
مع قناعتي بأنَّ كلَّ التجديد في الأساليب – والمضامين الأدبية والفنية والإيديولوجيات في بلداننا الشرق أوسطية، ومنها بلدنا، كانت محاكاة، أو كانت متأثرة في أهم خصائصها بما وصل لها أو اطلعنا عليه مما أنتجته تلك العواصم، أقول مع هذه القناعة شعور – هو وطني أو قومي بامتلاكها وعائديتها أو حتى بإبداعها!.
ليكن، فما دمنا ارتضيناها، ففي تطبيقاتها أو إعادة إنتاجها، لنا فضيلة الإسهام وبعض الإبداع. لكن لا يكتسب أي تجديد وطنيته (الكاملة) بالتأثر وحده. ثمة مسألتان أولاهما الإضافة الخاصة، بأن يكون هو أيضا نتاج تحول اجتماعي وفكري. أي أن يكون نتاج احتدام صراعات بين موروث وغرابة جديدة وصولاً لـ (ألفة). أي أن تسبقها سنوات تكوين واشتباك مناهج واتجاهات في جوانب الحياة الاجتماعية كلها. تجديدنا في الرسم أولا وفي الشعر ثم في الرواية جاء من قراءات الجديد في العالم – ليس عيباً، هي هكذا كانت ظروف التطور في  شرقنا الأوسطي. ليست هذه منقصة ولكنها شجاعة، شجاعة النظر إلى ما وراء السياج والتقاط صور حياة ومضامين، وشجاعة رؤية ثقافة واجتهادات وجدت تربتها الخصبة في بلداننا واستعداداً للتغير وطموح مواهب لتبدع (حديثا). تحاشيت كلمة (جديداً) لأني أردت الإشارة إلى الرغبة في التماس الحداثة.
هنا يكون الجديد نتاج ظاهرة تاريخية متطورة. هو ثمرة عنفوان تحولات ورغبات جديدة. مجتمعاتنا ليست أكثر من تجمعات مجالس. وتجمعات مقاهٍ وتجمعات أكاديمية وكلها محدودة الأعداد والفعل، ومعزولة لولا بعض الارتباطات المذهبية أو الحزبية، ومع هذه تبقى محدودة العدد، لا خضم  اجتماعي مشتبك الأفكار والطموحات والثقافات والاجتهادات الفنية تواكب سنوات من التأزم والتألق والمغامرات، وتسبق كل ذلك ممهدات، لا تأتي هذه طافية ولا من محض تأثر ومحاولات وإسهام محلي في اكتساب مزايا كما هو حاصل عندنا. هناك ورشة اجتماعية واسعة تنتج من خزينها وتحصيلاتها وتطورها الاجتماعي، الاقتصادي والثقافي معاً.
نعم، بغداد، القاهرة، كانت فيها (بؤر) نشاطات، إرهاصات مماثلة لما في العواصم الغربية لكن النقل الثقافي البعيد، لا يعود في الداخل إلا كونه أصداءً وحماسات وانشغالات مرهفين بما يصل. لقد صنعت الأصداء المقبلة، اتصالاً عَمِلَ على  صناعة مناطق حساسيّة للجديد وانتاج مثيل لما يقرؤون أو يرون أو يسمعون.
هذا جيد ومكسب وسطي ولكنه سيبقي النشاطات، يبقي النتائج تابعة لمصادرها وتبقى استجابات لا تخلو من أصالة ولكنها أصالة المضاف.
الإشكال المؤثر في نمو هذه الحركات المحلية الحداثوية هو أن هناك حيث المصادر، وهجماً سياسياً متحرراً، هناك حرية سياسية وحرية فكرية. فالفلسفات الاجتماعية والسياسية مرافقة للأدب والفن والسينما. وحركات التجريب دائبة ساخنة. في روايته، كاسماسيما، يصف جوليس لندن (بذات التعدد الرهيب). هي بؤرة كبيرة «تكاثفت فيها مجموعة كبيرة من الانطباعات والصور الحالمة أغنت الرمزيين. وهي مدينة تفيض بالكلام القادر على دفن خمسة ملايين من البشر...» هذا الحصار البشري، هذا الظرف المنوّع والصعب والمهدد وطارد الطبيعة والرومانسية، انبثق منه أدب جديد وصيحات فنية، واتّقدت أفكار تواجه الحاضر وتعطي إشارات نارية للمستقبل. ما أردت أقول إنها ليست مجتمعات مغلقة هي بما يجري فيها حياً ومزدحماً. هناك الحداثة عندنا حتى اليوم لم تهضم. حتى اليوم تعيش على ما يصل. قد نضيف ولكن لا نؤسس!، وهذه مسألة تختلف عما كان في لندن وباريس حيث وهج الحداثة والأفكار – مع ذلك، الإنجازات الأعظم والأكثر حداثوية حققها أميركان: الطموح الانجليزي لم يكن كافياً الحرية في انجلترا كانت أقل!، والجذب الأميركي أكثر! والحداثة انتقلت من باريس إلى أميركا!.
كثير من الكتب منعت في انجلترا، وكتّاب حوكموا. مُنِع اميل زولا، وكونراد قرر ألا يكتب رواية بعد روايته «جود» شرط التجديد كان منقوصاً. أميركا التقفت العبقريات الانجليزية بل التقفت الحداثة من فرنسا!، المحافظة الفكتورية والتزمت الكنسي، أفسدا على انجلترا الكثير، وهما أكثر ما دفع الحداثة عبر المحيط.
الواقع الانجليزي المرهق وتباعد الناس والأمور الرثة والفساد، تلك كانت اهتمامات الفن واهتمامات أكثر الأدب. أما التجريب الحداثوي فعبر الأطلسي، هناك العالم أوسع والحرية أوسع والمال.
لا تأتي التحولات استجابة لرغبات قدر ما تأتي، عملياً، من توافر شروط 
التحول الى الجديد، وللظواهر عادة أسبابها. 
مجتمع السنوات الأولى للقرن الماضي كان سريع التغير كثير الغرائب والمستجدات، بسبب الاختراعات العلمية والنمو الاقتصادي والتوترات السياسية وتزايد النقائض واختلاف التطلعات في حياة الناس.. بيئة قلقة مزدحمة صار فيها خيال الفنان، شاعراً، كاتباً، رساماً، وموسيقياً، يخلق أشكالاً تعبيرية ثورية جديدة، وكان هؤلاء المبدعون، كتابا، وفنانين، متسعي الوعي متجاوبين مع تلك الصراعات الاجتماعية والفكرية ومع التحولات الروحية في الحياة، ثم في الفنون، وردّات الأفعال من التكنولوجيا كانت واضحة في نتاجات الفنون كلها، والرواية والشعر شاهدان.