تساؤلاتٌ عن نرجسيَّة الأديب العراقي

ثقافة 2022/04/05
...

 استطلاع: صلاح حسن السيلاوي 
فضاء واسع من التعالي، عيش في بروج تمد أعناقها بعيداً في سماء من الخيال، وهمٌ في اكتشاف الحقيقة، وهمٌ مماثل في سطحية الآخر وعدم قدرته على هضم المفاهيم العليا للحياة، إحساس بالتفوق على الجميع والتهميش من قبل النخب، العزلة بداعي عدم الإيمان بقدرة المجتمع على فهم مشروع المثقف، هذه جمل، طالما دارت وما زالت تدور حول حيوات الأدباء ومشاريعهم الإبداعية، تكاد تكون أفكار هذه الكلمات محوراً لجدليّة نرجسيّة الأديب العراقي ومستويات عزلته ونخبويته وما يتم الحديث عنه من تعاليه عن المجتمع. 
من هنا توجهت بالتساؤل لنخبة من الشعراء لأنّهم الأكثر اتهاماً بتلك النرجسيّة بين الأدباء: ما رأيك في نرجسيّة الأديب العراقي؟، ألا ترى معي أنّه يعيش بعيداً عن مقولات الواقع واشتراطاته بسبب غواية الأدب؟، هل يمكن أن نعد النرجسيّة سبباً لاتساع المسافة بينه وبين المتلقي، هل لنرجسيّة الأديب علاقة بعدم قدرته على صناعة واقع جديد في الحياة الاجتماعية؟، ما أثر نرجسيّة الأديب على  مستوى تأثير المثقف وطبيعة منجزه، وما يقدم من أفكار وأحلام؟،  ألا تعتقد أن كثيراً من المثقفين يعيشون في فضاء من النرجسيّة أوصلهم إلى العيش في مزيج من الوهم والخيال؟، ماذا في ذاكرتك من وقائع نرجسيّة الأديب؟. 
 
نرجسيّتان نصِّيَّة وشخصيَّة 
الشاعر نامق عبد ذيب يرى الأدباء من النماذج التي يتصف أفرادها بالنرجسيّة المضاعَفة، فالأدب حسب رأيه نتاج  للإعلان عن الذات حتى وإن كتب عن موضوعات بعيدة عنها، مشيرا إلى وجود نرجسية نصوصية وأخرى تتجاوز النص إلى شخص الأديب الذي يفكر بصورته المتضخمة في بِركة ذاته غير المرئية، فلا يسمع إلّا صوته على حد قوله.
وأضاف ذيب مبيّنا: منذ رأى “نرسيس” صورته في البركة وهو يتكرّر عبر الزمان والمكان، من خلال نماذج إنسانية عبّرت عن نزعات من الغرور والتعالي والنظر إلى الذات من وجهة نظر معبّأة بصورة “الأنا” المكبّرة، وأكثر هذه النماذج الإنسانية المتكررة هي أولئك الذين  يمارسون أفعالاً لها علاقة بالشهرة والإعلان عن
الذات.
 والأدباء هم من هذه النماذج التي يتصف أفرادها بالنرجسية المضاعَفة، فالأدب هو نتاج يعلن فيه الأديب عن الذات حتى وإن كتب عن موضوعات بعيدة عنها، والأديب العراقيّ لا يختلف عن غيره من الأدباء في العالم، ولأنه الأقرب لنا فإننا نستطيع أن نؤشّر بعض علاماتها عنده، فهناك من هم نرجسيون في نصوصهم، تحس عندما تقرؤهم بأنك تقرأ لنرسيس نفسه في لحظة رؤيته لوجهه في البركة، الأنا المتفاخرة تعلن عن نفسها في نصوصه بلا مواربة، وقد نحتمل هذه النرجسية إذا كان النصُّ متوازناً، ولكنْ، هناك نوعٌ من النرجسية – وهذا ما نشاهده في بعض المحافل والمهرجانات - تظهر عند بعضهم حتى مع أقرانهم من الأدباء فتراهُ ينظر بطرف عينيه إلى خياله ويفكر بصورته المتضخمة في بِركة ذاته غير المرئية، لا يسمع إلا صوته ويتصور نفسه شمساً بينما الآخرون مجرد نجوم باهتة في جبروت ضوئه، هذا مع أقرانه، فكيف به مع قارئ تعيس الحظ أوقعته الصدفة بين براثن خُيلائه.
ثم تحدث ذيب عن غوايات الأدب وأثرها على مشروع الأديب موضحا: للأدب غوايات تأخذ بالأديب إلى مسارب شتى وأولها أنه يسجن أدبه وحياته في قناعات ذاتية تبعده عن الحركة الأدبية التي هي نتاج حركية المجتمع وتفاعلاته من أول شروط الانتماء لها هي أن يتفاعل مع ما تنتجه من توجهات ومسارات فكرية وأدبية واجتماعية، قرأنا لكتاب كبار عراقيين وعرب وأجانب وتعلّمنا منهم كيف يتعامل الأدب الحق مع بيئته وظروفه التي نشأ فيها، وفي الحقيقة إن المسافة بين المتلقي العراقي والأديب النرجسي مليئة بأحجار العثرات التي يلقيها الأديب نفسه في طريق التقائهما، كذلك فإن نسبة النرجسية عند الأدباء نسبة عكسية.
 فكلما كان الأديبُ صاحب منجز كبير ومحترم قلّتْ عنده نسبتُها، والعكس صحيح، فأنا أعرف “أدباء” بلا إبداع وبلا أية قيمة أدبية لكنّ نسبة النرجسية عندهم عالية، يتحدّثون عن منجزاتهم الدونكيشوتية، وعن طواحينهم التي لا تطحن إلّا الزؤان، هؤلاء يثرثرون أكثر مما يكتبون، المقاهي وجلسات النميمة هي ساحات معاركهم التي يتخيّلون فيها أنفسهم شموساً تضيء ليل الآخرين المظلم، وعموماً فإنّ الأديب النرجسي لا يفكّر بالحياة الاجتماعية ولا بالهموم العامة، يصمت وينزوي حين يُطلب منه الكلام في قضية عامة، بل يحاول أن يظهر وكأنّه أكبر مما يدور حوله من تفاعلات في شتى مناحي الحياة التي يتصور الآخرون أن عليه أن يقول فيها رأياً أو يتبنّى موقفاً، لهذا فأنت حين تقرأ له نصّاً إنّما تقرأ ألغازاً وثرثرات ذهنية بعيدة عما يدور حوله، النرجسيُّ حتى في قصيدة الحب لا يتحدث عن الحب، والحبيبة عنده مجرّد أداة لتمجيد صورته، وكلنا يتذكر نزار قباني الذي بنى أهراماً من الحلمات.       
 
رعد عبد القادر مثلا 
الشاعر رعد زامل يعتقد أن أغلب الأدباء المصابين بتضخم الأنا يعانون من أمراض نفسيَّة أبسط أعراضها هو انقطاعهم عن المجتمع وانعزالهم وعدم التأثير فيه والتفاعل مع قضاياه. لافتا إلى أن غموض اللغة وعدم الوقوف على دلالة واضحة في طيات الكتابة ليس لعمق النصوص فنيا وإنما لضبابية تلف رؤية هذا الكاتب المريض وهي من تأثيرات تضخم أناه. 
وأضاف زامل موضحا: من هنا انقطعت خيوط التلقي بين الشاعر النرجسي وجمهوره وأصبح الشاعر في برجه العاجي بعيدا، وأجزم أيضا أن الكاتب النرجسي يجد صعوبة في فهم نفسه فتنفرط لذلك من بين يديه الكلمات وتتلاشى الفكرة بسبب تشوّش عقله أو قل بسبب عدم شفافيته. أتذكر عندما كنت في بداية مشواري الأدبي كنت أواجه صعوبة في إقامة علاقة أدبية مع بعض الأدباء بسبب نرجسيتهم العالية. وفي الوقت نفسه كانت علاقتي تترسّخ أكثر وبشكل طبيعي مع شعراء كبار بسبب بساطتهم وانفتاحهم وتواضعهم فعندما أهديت مجموعتي الشعرية (ربما الشمس رغيف حار) للشاعر الراحل رعد عبد القادر رحمه الله وضعها في حقيبته وعندما التقينا في اليوم التالي في (مقهى الجماهير) أيضا كان يتطلع لي من بعيد وحين وصلت وقف قائلا: (أحييك على هذه النصوص، أحييك على موقفك الوجودي والإنساني). كان الشاعر رعد عبد القادر متواضعا في نظري على العكس من شعراء عديدين عبثا يحاولون النفخ في أنفسهم وفي نصوصهم لأنّها بلا مسحة تواضع ستبقى نصوصا فارغة كالفقاعات تماما. ثم لا يمكن أن يكون الكاتب كبيرا ما لم يملك رسالة إنسانية كبيرة في أدبه يتبناها ويدافع عنها كما يذهب الى ذلك الروائي إرنست همنغواي.
 
أدباء ما بعد التغيير 
الشاعر مهدي القريشي قال: في أحد مهرجانات المربد الشعري الذي يقام في البصرة عرض عليَّ عريف الحفل أن أصعد على المنصة لإلقاء قصيدتي، فتفاجأت من طلبه هذا واستغربت منه، كيف يطلب منّي أن أقرأ اليوم في حين المنهاج يؤشر قراءتي لِغَدٍ، فأجبته متأسّفاً، وأردتُ أن أعرف السبب، فقال إنّ بعض الشعراء لهذا اليوم قد اعتذروا متحججين بمغادرة الفضائيات التي تنقل المهرجان وبقي عريف الحفل في حيرةٍ من أمره. هكذا هم الشعراء متضخمو  الأنا، يدفعهم غرورهم ونرجسيتهم بالتعالي والتميز عن الآخرين، معتقدين أن قصائدهم لا تحدها جدران قاعة ولا حتى فضاء مدينة، إنّما يجب أن يراهم جمع غفير من المعجبين (كما يعتقدون). فتضخم الأنا يصحبة شعور بالتعالي بعد أن تزداد عصارة النرجسية بالضخ حدَّ الإشباع فيصل الى مرحلة المبالغة في الذات البشرية وجعلها تطوف محلقة فوق البشر، وهذا ما يطلق عليه جنون العظمة والتكبّر وما على الآخرين إلّا الاعتراف بهذه الذات. 
من هذه الحالة وأمثالها نستطيع أن نستخلص دروسا ثقافيَّة يقف في مقدمتها وجود الهوة الكبيرة بين المثقف والمتلقي وصعوبة توصيل الأفكار والرؤى للآخر، لا سيما إذا ما عرفنا أن المتلقين هم النخبة التي تفهم الدرس جيداً.. والدرس الآخر المستخلص هو الابتعاد الاختياري للأديب إن كان شاعرا أو سارداً عن هموم وتطلعات الجماهير خاصة التي تحتاج صوتاً يدافع عنهم، لا أن يجلس في بروج عالية وينظر للحدث من زاوية البطر والفرجة.
وأضاف القريشي موضحا: صفة النرجسيَّة ليست حكراً على الشعراء لكن لكونهم أكثر تماساً مع الجمهور فتظهر هذه الصفة بشكل واضح وفاضح، أما من خلال سلوكهم الاجتماعي أو من خلال تعاليهم في ما يكتب ولَم تكن النرجسيّة حديثة عهد على الرغم من أنّها لم تظهر بشكل واضح في قصائد شعراء وكتاب الأجيال الحديثة لكن قد تظهر في سلوكيات بعضهم.
في ستينيات القرن الماضي كان للأديب وخاصة الشاعر دور مهم في التأثير في الواقع الاجتماعي والسياسي. قصيدة واحدة تستطيع أن تُؤثر في مزاج الجماهير وتدفعهم للتظاهر ضد نظام الحكم، ومن ثم يكون تأثيرهم أكبر من المتوقع هؤلاء الأدباء خرجوا من عمق الواقع الاجتماعي وتعايشوا  بتماسٍ مباشرٍ مع الجماهير بعيدا عن مرض النرجسيَّة وتضخيم الأنا، فجاءت كتاباتهم منسجمة مع ذات الكاتب ومتوائمة مع تطلعات الآخر؛ لذا كان تأثيرها مهما ومثمرا، أما موجة أدباء ما بعد التغيير، فبعضهم كانت انشغالاتهم لا تتعدى همومهم الذاتية، فنادرا ما نجد شاعرا يعبر الخطوط الحمر الكونيّة ليؤشر حضوره الكوني، وذلك لعدم إنغماسهم وتناغمهم مع هموم وتطلعات الجماهير وعدم تفهمهم لمتطلبات المرحلة الآنيَّة، فهم في وادٍ والنَّاس في وادٍ  آخر. 
أما مدى تأثير نرجسية المثقف على ما يقدم من أفكار وأحلام فإن المثقف النرجسي يحتاج وضمن تكوينه السايكولوجي الى شعوره بالعظمة والإطراء والمديح وإضافة الألقاب الى صفته الأدبية، من هنا تبرز الدوافع الذاتية لدى الأديب الى تقديم الأفضل والأحسن إبداعاً وجمالا؛ لكي يحافظ على هذه الصفات والألقاب، ومن ثم السعي للانتشار والشهرة كما جاء في مثالنا السابق، الخلاصة كما يؤكدها اريك فروم من أنّ الفنانين والكتاب والسياسيين من ذوي الشخصيات النرجسيَّة، إنَّ هذه النرجسية لا تتدخل في فنهم بل تساعدهم فيه.