سلطة الثقافة البطرياكية

ثقافة 2022/04/05
...

  ناجح المعموري
عندما أخذت الثقافة الذكريَّة توطد أركانها وبدأ الرجل بالصعود ليشارك المرأة سلطانها في حياة الجماعة. ولدت العذراء ابنا دونما نكاح، بقواها الذاتية وخصبها الذي يحتوي في صميمه على بذور الأنوثة والذكورة معاً. وكما كانت عشتار عذراء قبل الولادة كذلك هي عند الولادة، لأن عذريتها رمز اكتمالها وغناها عمن سواها، ورمز لأسبقية المبدأ الأنثوي على المبدأ الذكري. وأختام عشتار لم تفض لزرع بذرة الإله الابن. ولم تفض خروجه، ولن تفض بعد ذلك بالممارسة. لأن أختامها رمز اكتمالها وغناها وإغنائها.
ورمز لسيطرتها على جسدها الذي لا ينقص منه الجماع، ولا يترك فيه ذكر علامة، لذا فقد حملت آلهات الطبيعة لقب العذراء. فهذه أنانا السومرية في أكثر من نص تخاطب بالعذراء، أو تتحدث عن نفسها كعذراء. ففي حوارية بينها وبين أوتو إله الشمس حول زواج الآلهة المرتقب نقرأ:
أي أختاه عليك بالراعي الكثير الأنعام
أنانا أيتها العذراء لماذا تعرضين عن الراعي؟
أنا العذراء سأتزوج المزارع
الفلاح الذي يزرع النبات ويعطي الغلال الوفيرة
وعندما ولدت عشتار ابنها، شقها الذكري الكامن فيها منذ الأزل، تزوجته لتخصب نفسها به فتستعيد إلى نفسها قوتها الإخصابية الذاتية التي أطلقتها نحو الخارج. وكذلك كان الإله الابن، أبناً للأم الكبرى وزوجاً أو حبيباً في الوقت نفسه. هذا هو شأن تموز، ابن عشتار البابلية، وأدونيس بن عشتارت الكنعانية، وأوزيريس في شكل هورس ابن ايزيس المصرية، وأتيس بن سبيل وزيوس بن جيا الكريتية. وبعيدا عن الشرق القديم والعالم الهليني نجد الأم العذراء وابنها قد وصلا إلى شواطئ العالم الجديد مع وصول الزراعة إليها.
لم يتأسس المجتمع الإنساني الأول بقيادة الرجل المحارب/ الصياد ـــ كما قال فراس السواح ـــ بل تتبلور تلقائياً حول الأم التي شدت عواطفها وحبها ورعايتها، الأبناء حولها في أول وحدة إنسانية متكافئة هي العائلة الأمومية، خلية المجتمع الأمومي الأكبر، ذلك أن عاطفة الأم نحو أولادها وعاطفة الأولاد نحو أمهم، هي العاطفة الأصلية الوحيدة، وكل ما عداها يأتي بالاكتساب والتعلم... لقد عرفت المرأة قبل أن يتعلم الرجل، كيف توسع دائرة ذاتها بالحب لتشمل ذاتاً أخرى ومخلوقاً آخر، وكيف توجه كل ما لديها من هبات الطبيعة نحو حفظ تلك الذات الأخرى وتنميتها كنفسها، وكيف تفتح هذه الدائرة بعد ذلك لتشمل أولاد أولادها وأولاد النساء الأخريات. وتزدوج المرأة بالولادة جسدياً ونفسياً وتوسع آفاق كيانها الطبيعي والروحي، أما الرجل فالمولود الجديد يشد أزره ويدعم وضعه الاجتماعي ويحافظ على ممتلكه في مقابل ممتلك الآخرين، ويتمرأى أمام ذاته. فالمبدأ الأمومي يجمع ويوحد، والمبدأ الأبوي يفرّق ويضع الحواجز والحدود. المبدأ الأمومي مشاعة وعدالة ومساواة، والمبدأ الأبوي تملّك وتسلّط وتمييز. الأموميَّة توحّدٌ مع الطبيعة وخضوع لقوانينها، والأبويَّة خروجٌ عن مسارها وخضوعٌ لقوانين مصنوعة.
خصوبة الأرض هي أيضا متضامنة بالخصوبة النسويَّة وبالنتيجة فإنّ النسوة أصبحن مسؤولات عن وفرة المحاصيل، لأنهن يعرفن سرَّ الخلق. إنّه يتعلّق بسرٍّ ديني، لأنّه يحكم أصل الحياة الغذاء والموت. فالحقل مثّل بالمرأة مؤخراً، وبعد اكتشاف المحراث أصبح العمل الزراعي يمثل بالعمل الجنسي. ولكنه خلال ألوف السنين، فإن الأرض/ الأم قد ولدت وحدها بتوالد عذري (من دون إخصاب). إن ذكرى هذا السر عاشت أيضا في الميثولوجيا الأولى ميتة. 
لقد حبلت «هيرا» وحدها وأولدت «هيفيستس لاريس» وتركت تترجّم في العديد من الأساطير والعديد من المعتقدات الشعبية عن ولادة رجال من الأرض، والولادة على الثرى وإبداع المولد الجديد على الأرض.
الإنسان المتولد من الأرض، عند موته سيعود لأمه «الزحف نحو الأرض أمّك» هكذا هتف الشاعر الفيدي.
القداسة النسويّة والأمومة لم تكن مجهولة عند «الباليوليتك» ولكن اكتشاف الزراعة أنمى قوتها بشكل محسوس. إنَّ قداسة الحياة الجنسيَّة وفي الدرجة الأولى الجنسيَّة النسويَّة، تختلط مع اللغز العجيب للخلق. إنَّ الحبل من دون لقاح والقِران بين الآلهة والبشر وطقس التهتك الشعائري توضح، على مستويات مختلفة، الخاصية الدينية للجنس، إن رمزاً معقداً، من تكون بشري كوني يشرك المرأة والجنس مع الإيقاعات القمرية ومع الأرض الممثلة بالرحم.
التخصيب بواسطة النبات إشارة رمزية للدور الذي لعبته الأم/ الأرض في فجر الحضارة الإنسانية وعن صلتها مع الزراعة بشكل مباشر والتماهي بين الأم والأرض. ويعود السر في الحمل إلى الطاقة السحرية الكامنة في النبات والتي أضفت عليها الشعائر والطقوس طاقة التحقق والنجاح في الإبقاء على العلاقة الثنائية الموجودة بين الأم والانبعاثات الأرضية، إذ تمكنت الأم التي اكتشفت الزراعة وعملت على تطويرها، وربطها مع الرموز الأموميَّة الكثيرة (القمر، الأفعى، النبات، الشجر) من الإفادة المستمرة لتطوير نوعية ومستوى الاتصال الذي تعقده المرأة/ الأم مع الأرض وانبعاثاتها. وترسم لنا هذه العلاقة نوعاً سريَّاً/ روحيَّاً من السعي للإبقاء على النظم ذات الصلة المباشرة مع الخصب والتجدد المستمر للكون والعالم في آن.وحيازة الأم على هذه المعرفة وامتلاكها للأسرار، جعل منها جنساً خالداً، أبديَّاً، يعرف شروط بقائه وتكرره الدوري، مثلما هو حاصلٌ في الحياة والطبيعة، متماهيَّة مع المواسم والفصول بحركة موت وانبعاث وبهذه الثنائيَّة، حققت نوعاً عاليا من البقاء والخلود والخضوع لسيرورة متحرّكة وأبديَّة. 
لقد صاغت الأم من خلال الاكتشاف واستمرار العمل الزراعي نسقاً ثقافيّاً تمركز حول سرٍّ مركزيٍّ هو تجدد مستمر للعالم. وأن الكون قد فهم كمؤسسة يجب لها أن تكون مجددة دوريَّاً، وبعبارة ميرسيا الياد: إن الحقيقة المطلقة هي أن التجدد والخلود قابلان للاكتساب من قبل بعض المتميزين بشرط توفر نوع من ثمرة أو نبع بالقرب من شجرة والشجرة الكونية يفترض لها أن توجد في مركز العالم. وطالما أن العالم يجب له أن يتجدد دوريَّاً، فإنّ نشأة الكون ستكون مكررة شعائريَّاً بمناسبة كل سنة جديدة، وهذا السيناريو الأسطوري/ الشعائري تأكد في الشرق الأدنى وعند الهندو ــ إيرانيين، إلا أنه يوجد أيضا في مجتمعات المزارعين البدائيين. 
إنَّ المعنى الدلالي لبعض الرموز الطقسية والشعائرية المرتبطة بالأرض، صارت كلها عوامل أساسية في التجدد الأمومي، والانبعاث، لأنها ــ الرموز ــ منتجة في رحم الأرض، وما يظهر على الأرض هو ابن لها، وسيتحول بعد زمن إلى زوج لها.. وتطور هذا المفهوم البدئي/ الأسطوري، هو الذي جعل الأم/ المركز الثقافي/ الديني تحوز عليه وتعقد قراناً معه، مستعينة بسحريته من أجل الخصب. وظهور النبات/ الشجر وثمارها في أزمنة محددة، شكلت التقويم الأمومي/ الزراعي، هو عيد الاقتران المتجدد بين الأم وابنها المنبعث، لذا كانت لحظة الاتصال الرمزي/ التمثيلي بين الأم الكبرى/ والأنوثة والابن، هي لحظة استعادة رمزية للابن، من قبل الأرض عبر رموزها الحياتي/ الحقيقي، أو الأسطوري. 
واهتمت الأساطير والنصوص الشعرية بالعلاقة الثنائية بين الإنسان والأم/ الأرض، ولا يمكن لأي إنسان أن يتصور حياته بعيداً عن الأرض/ الأم، هي التي ولدته واهتمت به ولم يبتعد عنها حياً ويعود ثانية إلى حضنها ميتاً، هذه الدورة التي أشرنا لها هي العصب السري الموحد بين الإنسان والأرض وبين الأرض والأم أيضا. وتتبدى العلاقة العميقة بين الاثنين وبقاء الإنسان مرتبطاً بسرة الأرض، هو أمنيته العودة حتى يتمكن من العودة إلى أمه الأرض، فيما إذا كان خارجاً أو مسافراً، ووردت إشارة في «الريكفيدا»: ازحف نحو الأرض، أمّك. وجاء في «الاثارفا فيدا: أنت، الذي أنت الأرض (التراب، اضعك في الأرض). ويقال في أثناء الاحتفالات الجنائزية في الصين: ليعد اللحم ثانية إلى التراب. وأشار ميرسيا الياد إلى مخاوف الإنسان من أن يدفن بعيداً عن أرضه، حيث كان يكتب على شاهدة القبر: هنا كانت ولادته، وهنا دفن، كما تكشف عن الفرحة بالعودة إلى الوطن: «هنا حيث كانت ولادته، والى هناك كانت رغبته في العودة».هذه الخبرة الأساسية ــ التي ليست الأم البشريّة فيها إلا تمثيلاً للأم الأرضية الكبرى ــ أتاحت نشوء عادات لا حصر لها ومنها، على سبيل المثال، الولادة على الأرض، وهو طقس موجود في كل أنحاء العالم.