الوعي والعدم

ثقافة 2022/04/05
...

 منذر چلوب
ننشر اليوم أجزاء من كتاب «الوعي والعدم: جوهر الوجود وحدود اللغة» للمؤلف العراقي منذر چلوب. الكتاب سيصدر عن دار الرافدين ـ بيروت ـ بغداد في الايام القليلة المقبلة.
هذا مشروع لمنظومة ميتافيزيقية لفهم الوجود معتمدا الفلسفة كطريقة تفكير برهانيَّة تبدأ من مسلَّمات إمّا متفق عليها، وإمّا هي فوق الخلاف، وإمّا هي مسلَّمات نعرضها زعما منّا أنّها بينة بذاتها وغير محتاجة إلى برهان رغم جدة طرحها. والقول إنها ليست بحاجة إلى برهان لا يعني قذفها اعتباطا والبناء عليها، وإنما يكون الوصول إليها ناتجا عن تحليل وتدقيق.
كانت نقطة الارتكاز الأساسية التي تم بناء هذا الفهم للوجود بكل تفصيلاته عليها هي (الضمير). ومفهوم الضمير، بالمعنى الذي نوظفه، هو أهم مفهوم في هذا البناء والمذهب الذي يعرضه هذا الكتاب. ولا يقتصر فهم الضمير على المعنى الأخلاقي وإنما يتعداه إلى المعنى الوجودي الأعم. فالضمير ابتداءً أعني به (الأنا) بمعنى ذلك الشعور الذي أدرك به ذاتي في مقابل كلّ ما سواي. الضمير هو (الأنا موجود) وهو بؤرة الوعي التي يتم الوصول إليها من خلال الكوجيتو الديكارتي مع الفارق. وقد استخدمت مصطلح الضمير والأنا بمعنى متطابق في الكتاب كله. كما أن هناك عاملين أساسيين بينا مكانتهما المفصليَّة للفهم والفعل الإنساني في هذا العالم، هما التوق نحو الكمال والخوف من الموت، كما كان عامل الميل إلى الحفاظ على البقاء والاستمرار في الحياة للفرد والنوع موضع تمعن عند الرؤية التفصيلية لمجريات الحياة والأفعال في تشابكه وتفاعله مع العوامل الأخرى.
والمنهج المتبع بالمقام الأول هو منهج التحليل مع تشديد على مسألتين مهمتين، هما الوضوح والبساطة. والتحليل المتبع هنا غير مقصور على التحليل اللغوي، وإنما يشتمل على الاستفادة من المنهج الظاهراتي ليحفر في المعرفة التي تتخذ من الوعي موضوعا يتجاوز ثنائيّة الذات والموضوع أو يعلو عليها. وبتتبع القراءة المتأمّلة تتضح معالم المنهج وتماسكه في غاية الوضوح.  
واستعانة بالدراسات المعاصرة في فلسفة اللغة وعلومها؛ أخذنا من اللغة نقطة انطلاق في هذا البناء، بوصفها الصورة التي يمكن الإمساك بها، نوعا ما، من الفكر، والتعامل معها وتحليلها، ثم البناء عليها. فكان الانطلاق من اللغة وصولا إلى الفكر للانتهاء بـ “الأنا موجود” أو الضمير لتكون هذه الذات الواعية المدركة لوجودها هي المسلَّمة الأساس التي منها يبدأ كلّ تفكير في الوجود وكلّ بناء.
والبدء باللغة دعت إليه مركزية اللغة من ناحية تداخلها مع الوجود بطريقة تمحو الحدود الفاصلة بينهما، فمن دون اللغة يستحيل الشروع بتاتا، وقاربنا الموضوع بطريقة تفك الإبهام الذي عانى منه آخرون، ربما كان أهمهم هيدغر وعبارته المهمة لكن غير الواضحة أن “اللغة بيت الوجود”. 
اللغة، كل لغة يتداولها الناس، تكون الثنائيات، تقابلا أو تناقضا، خاصية من أهم خصائصها. ففي مقابل الكامل هناك الناقص، ومقابل الكبير هناك الصغير ومقابل الوجود هناك العدم، وهكذا. وهذا من طبيعة اللغة المنطوقة أيا كانت. من هنا، ومن تجاوز هذه الثنائيات نصل إلى الوحدة الأساسية للوجود.
في هذا السياق نجد أن اللغة تحاول وصف ما هو خارج عنها بقوالب من الثنائيات المتقابلة، من قبيل (ذات/ موضوع) وهذه الثنائية هي أهم الافتراضات غير المبررة التي يعاملها حسّ البداهة common sense على أنها من المسلّمات، فضلا عن ثنائيات أخر تعم اللغة ومن ثم تسري فاعليتها إلى كل ما هنالك بدءا من (وجود- عدم)، (كامل-ناقص) وصولا إلى (جميل- قبيح)، و(حلو- مر) ...الخ. فهذه الثنائيات تجد فيها مميزات لغوية طبعت الواقع بطابعها بتعسف غاشم بطريقة أدت بالفلاسفة إلى التعامل مع الواقع وكأنه هو المعبّأ بهذه الثنائيات. وأن اللغة مجرد انعكاس له، في حين أننا نزعم أن الأمر معكوس. وعلى الرغم من استفادتنا من التحليل منهجا؛ إلا أننا تجاوزنا القوالب الجاهزة التي وضعتها الفلسفات المعاصرة من قبيل؛ تحليل، تفكيك، بنية...الخ. لمحدودية بعضها وعقمها الفلسفي. ولإغراق البعض الآخر بالمنحنى الشكلي القريب من الإنشاء والشاعرية على حساب الوضوح والدقة.  
مرَّ السؤال عن مفهوم الوجود بثلاث مراحل متعاقبة. فمع بارمنيدس Parmanides (540- 480 ق.م) تم التمسّك بالوجود وعدّه كلّ شيء، ومن ثمة لا معنى للحديث عن العدم. ثم انتقل الحال مع ديكارت R. Descartes  (1596-  1650م) إلى التسليم بالتناقض بين الوجود والعدم، ثم التشكيك في الوجود؛ فقد يكون العدم أولى بالاعتبار، لكن ديكارت انتهى بواسطة الكوجيتو إلى وجود ذاته، ومن ثم إلى وجود الوجود، فأثبته ونفى العدم. ومع ليبنتز G. Leibniz (1646- 1716م) تحول المسار الفكري إلى التعليل فصار السؤال هكذا “لماذا يوجد شيء ما بدلا من ألا يوجد شيء بتاتا؟”. وتابعه مارتن هيدغر M. Heidegger (1889- 1976م) في ذلك أيضا.  لكنهما لم يقدما إجابة حاسمة عن هذا التساؤل.
فالوجود موجود بسبب اللغة. اللغة هي صورة الوجود أو أن الوجود صورتها. فمن دونها يستحيل التفكير أو الحديث عن الوجود. ولا يمكن -حتى تخيلا- وجود الوجود لو تخلينا لحظة عن اللغة. إن اللغة هي الوجود والإيجاد، وبمجرد وجود اللغة ثبت أن الوجود موجود. فلا مجال في اللغة لوجود العدم. ولا أسبقية بين الوجود واللغة، فلا واحد منهما أسبق من الآخر؛ فاللغة هي روح الكوجيتو، ولولاها ما أدركت الأنا في «أنا أفكر». تلك الأنا، التي أسميتها الضمير، هي إطلالتي الأولى على الوجود، لأنها أول وجود أعرفه وأتيقن منه.
و (الضمير) هو تلك الكينونة التي تدرك وجودها عند اللحظة الفارقة التي تكتشف ذلك الوجود بناءً على إدراكها لذاتها من خلال إطلالها على ومضة (أنا أفكر إذن أنا موجود). 
مهما ابتعدت الفلسفة عن سؤال الوجود، فلا بد لها من العودة إليه لأنه أهم الأسئلة، ولأن إجابته لم تحسم بعد. لا بد من الانطلاق من مسلّمة أن الوجود موجود، إذ بانتفائها لا يبقى من مجال لأي حديث.
هذا الوجود وجوده إما منه أو من غيره. إذا كان منه حسم السؤال. وإذا كان من غيره، انطبق السؤال على هذا الغير. فإما وجوده منه أو من غيره، ولا يمكن أن يستمر الأمر إلى اللا نهاية. 
وكما يُعبّر الفارابي لا بدّ من موجود واجب الوجود، وهو يضعه خارج هذا الوجود ويقول إنه الله. وهذا تصدير للمشكلة وليس حلا لها. إنه يعتقد أن هذا الوجود (وجود العالم) ليس من ذاته ولا بد من أن يكون هنالك وجود خارج عنه، لأنه يفترض استحالة أن يكون وجود العالم من ذاته ويعتقد أن وجود الله من ذاته، من دون أن يبين سبب عدم انطباق هذه الاستحالة على الله. لكن في الحقيقة يجب أن يبقى السؤال قائما، لماذا وجود الله من ذاته وكيف يكون ذلك؟ إن استحالة أن يكون وجود العالم من ذاته تنطبق على الله. وليس حلا أن نقول إنه لا بد من أن يكون وجود الله من ذاته وأن نقول إننا مضطرون أن نقبل بذلك من دون سؤال، وأننا لا بد من أن نتوقف عند الله مفترضين أنه مبدأ الوجود الذي لا نعرف ماهيته ولا كيفية وجوده لمجرد أنه لا يمكننا التسلسل الى ما لا نهاية، مثلما يعلل الفلاسفة العقليون منذ أرسطو، فعلا إننا لا يمكننا أن نتسلسل الى ما لانهاية، ولكن ذلك ليس سببا كافيا لنقرر أن الله (كائن) مفارق لوجودنا أو لعالمنا هو سبب العالم ومبدؤه. 
إن هذه هي أهم حجة على وجود كائن مفارق هو سبب العالم، هذه الحجة تختزل كل حجج الفلسفة. تختزل الحجة الكوزمولوجية والأخلاقية في الحجة الأنطولوجية. الكوزمولوجية ترى أن لكل شيء سببا ولكل حدث محدثا، ولكل نظام منظما الى أن نصل الى سبب لا سبب له، ومحدث لا محدث له، ومنظم لجميع الأشياء لا يحتاج الى ما ينظمه هو. وفي الأخلاق كذلك، إن فينا ميلا خلقيا لا بد من وجود مسبب له. وفي الدليلين نصل الى موجود لنقر أنه موجود بذاته ونتوقف عن التسلسل وهذا هو العبور الى الدليل الأنطولوجي.
ومن الواضح أننا قفزنا قفزة غير موفقة، ولم نحسن التركيز على معنى الوجود بسؤالنا عن سببه، إذا ركزنا على معنى الوجود، وعلى أن الوجود موجود، ومعنى الإمكان، وأن افتراض عدم وجود الممكن لا يؤدي الى تناقض في حين أن افتراض انعدام الواجب يؤدي الى محال بحسب تعبيرات الفارابي وابن سينا ومن تبعهم، وأننا نجد أن العالم ممكن، لأنه لا ينشأ محال من تصوره معدوما، وأن الله ممكن، لأنه لا ينشأ محال من تصوره معدوما. فالإمكان بهذا المعنى ينطبق على الله أيضا، فهو ممكن أن يوجد وممكن ألا يوجد ولا ينشأ محال من ذلك، فلطالما تصور أناس عدم وجوده من دون أن يؤثر ذلك أو تنشأ لديهم محالات، حين وضعوا افتراضات وتفسيرات أخرى للعالم. لكن الكائن الوحيد الذي تنشأ محالات من تصور عدم وجوده، بل إن تصوره غير موجود أمر لا نقدر عليه وهو مستحيل؛ ذلك الكائن الواجب هو «أنا». 
وبسبب ثنائيات اللغة نسينا الوحدة، وفي خضم الماضي والمستقبل وفي خضم قبل وبعد نسينا الآن. في خضم الجهات نسينا المركز.
هذا النسيان هو من ركائز الذاكرة وليس ضعفا أو عيبا فيها، وإنما لأن اللغة هي ما يشكل الذاكرة، مثلما أن اللغة هي ما يمفصل كل إدراكنا للوجود.
كل شيء سواي أدعوه هو. فالوجود مكون من الأنا والهو الذين يدركهما الفكر مترابطين ترابط الجهات التي لا يمكن أن يوجد أحدها من دون وجود الآخر، فلا شمال من دون جنوب ولا شرق من دون غرب، كذلك لا أنا من دون هو ولا هو من دون أنا. أما نسيان أحدهما والتركيز على الآخر فقط يؤدي الى خلل في الفكر ونقص في الوجود.
فالضمير لا يمكن له أن يدرك (بكسر الراء وفتحها) من دون أن يكون هناك وجود خارجه يواجهه ويصطدم به وينعكس على مراياه. هذا الضمير لا يدرك (بكسر الراء وفتحها أيضا) لولا وجود جسدي وحواسي. ولا وجود لحواسي لولا وجود محسوسات لهذه الحواس. فجزئيات الوجود ضرورية وحاسمة كي يدرك الضمير هذا الوجود ويدرك ذاته. يمكن تشبيه الضمير بالواحد في الحساب أو النقطة في الهندسة من حيث الحجم الضئيل ولكن الأساسي في الوقت نفسه. إنه هنا والآن، حد فاصل بين الماضي والمستقبل، تتقاطع عنده كل موجودات الوجود ولولا هذا التقاطع الحاصل عن طريق الإدراك لفقدت موجودات الوجود وجودها، وفي الوقت نفسه فإن تقاطع الموجودات عند الضمير هو الذي يمنح الضمير وجوده. ولولا تقاطع الموجودات عند الضمير لفقد الضمير وجوده.
من الممكن، من الناحية المنطقية، ألا يوجد الوجود، ولكن الوجود موجود. ويبقى سؤال هيدغر: “لماذا هناك وجود وليس هناك عدم؟”، من دون إجابة إذا استندنا إلى المعطيات الشائعة في الفكر الفلسفي. في حين أننا نجيب عن هذا السؤال من خلال كشف مركزية الضمير. أما العدم فهو انتفاء الضمير. فلو انتفى الضمير بوصفه نقطة التقاء الموجودات لانتفى الوجود.
هكذا فإن العدم، مثل الوجود ككل، لا يمكن التفكير فيه. أي لا يمكن التفكير في الوجود ككل، ولا يمكن التوصل إلى معرفة حوله جديرة بالاعتبار أو تحتوي تفاصيل. يمكنني فقط التفكير في جزئياته ومحاولة التعرف إليها، وتكون معرفة جزئية ناقصة قابلة للشك، تنطبق عليها كل إشكالات نظرية المعرفة المتداولة في الفكر الفلسفي، وهي معرفة مقصورة على الجزئيات فقط، مثل هذه الشجرة وهذا العصفور، ولا علاقة لها بالوجود ككل.
الجسد هو حدود الضمير. هو مكان التقاء الضمير بالعالم. الجسد أول ممتلكات الضمير، وهو سبب اللبس بين الضمير وما سواه، أو ما هو أنا وما هو خارج هذه الأنا. من خلال الاحساسات التي يمتلكها الجسد يمكن إدراك العالم الخارجي، ومن خلال التغاضي عن هذه الاحساسات يمكن للإنسان أن يدرك وجود الضمير. عند النوم تتعطل الاحساسات وتسبت ويبقى الضمير فاعلا فتكون الأحلام التي هي فاعلية الضمير محاولا خلق الإحساسات.
إنّ محاولة توسيع الضمير لفحواه تحدث عند محاولة الإنسان التملّك، بأن يضيف إلى هذا الضمير. إن منشأ ذلك هو الخطأ في تصور أن الجسد هو الضمير، ثم الظن أن بقية الممتلكات هي مثل الجسد كلّما كبرت وعظمت وقويت كبر الضمير وعظم وقوي، ومن هنا حب الناس للثروة. وقد يتعدى الأمر الممتلكات المادية الى محاولة امتلاك الآخرين من البشر بطريقة أو بأخرى، ومن هنا تكون جذور حب السلطة. وسبب اللبس المتأصّل بين الجسد والضمير هو كون حفظ الجسد وبقاؤه أهم ما يسعى له الفرد وأول غاياته وأهمها.
الطريق المعاكس لذلك هو انحسار حدود الضمير إلى ما دون الجسد، وإدراك أن الجسد مجرد وسيلة يستخدمها الضمير لإدراك العالم الخارجي، ومن ثم لإدراك ذاته، وأن مفهوم الامتلاك هو مجرد خطأ في فهم العلاقة بين الضمير والجسد. 
من خلال إدراك الضمير ومحاولة التغاضي عن الجسد وحواسه بغية التركيز على إدراك الضمير، يتم إدراك الله بوصفه الوجود الكلي الواحد المنبثق من الضمير وهو في الوقت نفسه مصدره، وهو المحتوي على كل شيء في الوجود وهو الموجود الواحد ولا موجود بالمعنى الحقيقي في الوجود سواه، ولا يوجد شيء من دون وجوده، فهو الضمير المطلق. وهو أوسع وأبعد من سياقات المنطق المصممة لفهم تفصيلات الموجودات. أما الموجود الكلي فهو أوسع من حدود المنطق ولا تنطبق عليه قوانينه ومقولاته. وقد تبدو أوصاف الموجود الكلي المطلق مليئة بالتناقضات المنطقية، ولكن هذا لا يضيره ولا يعنيه فهو أوسع وأشمل من المنطق. ويمكن بهذا حل جميع إشكالات فلسفة الدين وفهم مشكلة القدم والحدوث والعدل والعلم الإلهي وما شابه ذلك. إذ يكمن سببها في محاولة فهم الكلي بواسطة قوانين المنطق التقليدي التي مجالها هو ما هو جزئي فقط، ولا يمكن أن يتعدى إلى الكلي أو المطلق. وسببها تصور المطلق مفارقا، أو مشخصا خارج هذا العالم ومنفصلا عنّي. وهذه البنية الأنطولوجية بمنطقها العابر لثنائية (الذات والموضوع) تمثل ناصية لفهم مجمل أسئلة الفلسفة وتفسير أحاجيها في مجالات المعرفة والأخلاق والجمال.
بعض الفقرات في هذا الكتاب نشرت سابقا في مجلات علمية أكاديمية، لكن القسم الأعظم منها لم ينشر من قبل.
ومهما تراءى أن هذا الحديث فيه من التجريد قدر يبعده عن الهم اليومي للإنسان، فما هو بحديث لقابع في برجه العاجي، بل الجوانب التي تطرق موضوعات هذا الكتاب أسسها تشمل كل تفصيلات الحياة على تنوعها الشاسع. فهو يتعلق بأركان العلم والدين والمجتمع والسياسة والأخلاق والأدب
والفن.