معجزةُ القراءة.. حين أنقذني إبراهيم أصلان!

ثقافة 2022/04/07
...

 علي محمود خضيّر
لو قال لك أحدهم: القراءة أنقذتني من الموت، صدقه! 
تصبح القراءة عند البعض ممارسة تفوق التسلية والتثقيف إلى تكوين علاقات وجدانية مع الكتّاب، ومن ثم، مع الحياة، من خلالهم. علاقة يتجاوز بها المرء ظرفه المحيط (الساحق) إلى مفازات من المتعة والأريحيّة و(الحماية) لا تصدق أحياناً.
يروي الكاتب الروسي إيليا اهرنبورغ كيف قضى في العام 1941، بمعية زوج ابنته، ليلة عصيبة غطّتها الغارات الجوية في كوخ ريفي مع رواية «لمن تدق الأجراس» لهمنغواي، مترجمةً إلى الروسية، يكتب: «لم نستطع النوم لحظة! ظللنا طوال الليل نقرأُ الرواية، لقد بلغ استغراقنا واستمتاعنا بقراءة الرواية أننا لم نكن نسمع أصواتَ المدافع وانفجاراتِ القنابل».
يأخذنا الكتاب أبعد من الحدود المعقولة، وتذكّرنا القراءة بالمنسي من إمكانياتنا. مثلما تربط أسماء الكتّاب بمادة الحياة الأولى. سيذكرنا الليل بجزوالدو بوفالينو، والنافذة ببسّام حجّار، والمطر بالسياب، وشعرية التفاصيل بإدوارد الخرّاط. كلنا نبحث عن أسباب تربطنا بالعيش، سمّها المعنى، أو الجدوى، أو التوازن، لا فرق، لكن القراءة توفّر شيئاً من تلك الحاجة. القراءة معجزة، اختراق للزمان والمكان، تتجاوز بها الماديّ، تستعيدُ الزمن، وتختبر ما لا يُتاح من تجربة وأحاسيس. هل تذكر كاتباً أنقذك؟ أنا أذكر.
كانت أيام العنف الطائفي 2007 على أشد وطأتها، أخبار موت متلاحقة، تفجيرات، خطف، أمراض، نقاط تفتيش وهميّة. يد الخراب الساحقة تجولُ في جسد البلاد طولاً وعرضاً حتى أفقدتني الأحداث كل رغبة في مواصلة السعي، ووصلت بي إلى الحدود الحرجة. كنت أرى الحياة عبثاً وانتظاراً مجانياً في غرفة إعدام، وقد انعكس ذلك على وضعي إجمالاً، وأظن تجربتي تلك أقل وأبسط مقارنة بأخوتي، أبناء البلاد الذين عاشوا فوق أحزمة النار، لذا فإن روايتهم أولى بالتدوين. لكنني سأسمح لنفسي بالإنابة في سرد ما حدث. في تلك الأيام التي صارت فيها الأرض والسماء مَذْأبةً، حدثت المعجزة! لاح لي كتاب صغير لإبراهيم أصلان، عنوانه عادي لا فيهِ استفزازٌ ولا لعبٌ معتاد في مزج كلمات فخمة متناقضة جلباً للاهتمام. كان العنوان (حجرتان وصالة). تتحدّث الفصول عن يوميات عادية لمتقاعد عادي مع زوجته، تفاصيل حكاية تحدث في كل بيت، غير أن أصلان، وبكتابةٍ تُبرهن على براعة الفن في سحبنا من واقعيتنا لواقعيته؛ جعلني أنفصل تماماً عن محيطي الناريّ آنذاك لأجل فردوس الحكاية وهي تستحوذُ عليَّ متعةً وانسجاماً. وهنا أُعيد كلام اهرنبورغ: لقد استولى عليّ (العم خليل) واستغرقتُ في تفاصيله لأيام حتى نسيتُ تماماً أخبار الفزع في الخارج. بل إنني أعدتُ تأمّل تفاصيلي اليومية بمرآة التفاصيل اليومية لذلك المتقاعد الحكيم. كأنني رأيتُ أهل مدينتي كلهم متقاعدين، حِيدُوا عن الحياة، وعليهم استعادتها بالإيمان بما في الحدث العادي من أُعجوبة وجمال محض مكتفٍ بكماله. كان وصف أصلان لمشهد إعداد كوب شاي مثلاً، أو غسل ملعقة تحت الحنفيّة مساعدةً لزوجته، مجرد الانتقال بين الغرفات، أو كسر صحن طعام ومن ثم إخفاؤه كافٍ عندي لإضفاء معنىً فريد على يومٍ بلا معنى وحياة معطَّلة إلّا من أنباء القتل.
بعد تلك الواقعة ارتبط اسم أصلان عندي بكلمات من قبيل: منجاة، علاج، معجزة العادي...، وصرت أتلقف كل كتاب جديد له مثل فرصة في الاكتشاف وتوسيع آمال نجاتي! 
بالقَدْرِ الذي تكون القراءة فيه بوابةً للمستقبل، والوعد بما في المجهول من إمكانيات لا نهائيّة لما تكتشف بعد، فإنَّ قدرتها الآنية على انتشال الفرد من واقعه الأرضي تظل مقدّسة بما يرفع الكاتب إلى دور رسالي يزدريه المشككون ويُعليه
القانعون.