حقول الأدب ومصطلحات التجزئة

ثقافة 2022/04/07
...

  علي لفتة سعيد
 
لا يبدو الأدب على أنه مجموعة اختصاصات دقيقة يجب التخصّص فيها من قبل من يريد التعاطي معه، ولا يمكن تجزئته الى فروعٍ صغيرةٍ ثم أصغر كما هو حاصل في العلوم الصرفة مثلا. رغم أن الأدب مجموعة فروعٍ متنوّعةٍ تصبّ في صالح الهدف العام من خلال تعدّد العناوين وحتى المصطلحات، لكنها بكلّ تأكيدٍ حين تجتمع ترتدي ثوبًا واحدًا، له علامةٌ واحدةٌ لمن ينظر له كصورةٍ عامةٍ، فيرى الحروف هي القاسم المشترك الأعظم والأصغر في الحسابات الأدبية.
إنَّ الأدب هو الحقل الكبير المتاح لمن يريد استغلال موهبته، ولا يقدم عليه إلّا من كان سليل موهبةٍ وقدرة تبدأ من القراءة المتنوّعة، ولا تنتهي بالكتابة غير المنقطعة عن القراءة. وهو مجموعة حقول يمكن لأيّ موهوبٍ أن يدخل فيها ويزرع ما يشاء ليثمر، سواء من أراد استغلال حقلٍ من الحقول أو عددٍ منها او حتى كلّها، فهي حقول لا تنتهي مساحاتها ولا تحدّها خرائط ولا تمنعها حدود ولا تحتاج الى جواز سفر للعبور من حقلٍ الى حقل، سوى الموهبة والقدرة على الزراعة
والإنتاج.
إنَّ الكثير من الآراء التي جعلت من الأدب حقول اختصاص، مثلما جعلت منه مجموعة اختصاصات دقيقة من دون التفريق بين الإنتاج الأدبي والشهادة الأدبية. التفريق بين الموهبة الأدبية والأكاديمية الأدبية. ففي الأولى موهبة تبدأ منذ البدايات، ومن ثم ترسم لها خارطة طريق لتنميتها، فهي إذا ما اتّسعت تنامت، وإذا ما تنامت أينعت، وإذا ما أينعت غدت شجرةً في حقلٍ كبير أو أشجار في الحقول الكثيرة.. 
أما الثانية فهي التي لا يمكن فيها الدخول الى كلّ الحقول والرؤية الشاملة لكل ما فيها من (زرع) أدبي، لأنها رؤية فاحصة قد لا تبدأ كموهبة، وقد تأتي للبحث عن تقييم (شهاداتي) ولهذا فإن الفرق بين الأكاديمي الناجح في الأدب (الاختصاص) وبين الأكاديمي الحاصل على الشهادة، هي الموهبة التي بدأت في وضع أولى الخطوات في حقل أدبي، بمعنى أن الأكاديمي الأديب هو أديب أولًا قبل أن يكون باحثًا عن شهادة في اختصاصٍ معيّنٍ ومحدّدٍ يحتاج فيها حتى البحث عن عنوان للحصول على الدرجة العلمية، ومن ثم فإنه دخل حقلًا آخرَ من الحقول الأدبية، ودائما ما يكون حقل الشهادة هو حقل النقد، فيجمع بين الاثنين، الموهبة التي كان عليها شاعرًا أم ساردًا، ثم ناقدًا أو مدرّسًا في اختصاصه، يدرّس فيه من يريد الدخول الى حقل الدراسة الأدبية.
إنَّ الأمر ينطبق أيضا على الكتابة النقدية، فهي حقل من حقول الأدب ولا يشترط في (زارعه) أن يكون حاصلًا على شهادة أكاديمية لأنه ليس مدرّسًا، والأمر ذاته ينطبق لمن يكتب المقال الأدبي، فهو حقلٌ من حقول الأدب، لذا فإنَّ الأمر يكون متاحا لمن له الموهبة والقدرة والمران والصبر والإنتاج التدويني. ولهذا لا يكون السؤال منطقيا لماذا يكتب البعض في عدد من حقول الأدب؟ لأنّ السؤال الأصح الذي أكرّره دائما، ليس لماذا يكتب، بل لماذا لا يكتب؟ فهو أصلا في المساحة الكلية لحقول الأدب.. ولا يمكن وضع سؤال (نفسي) لماذا (يتشعّب) الكاتب في أكثر من حقلٍ أدبي؟.
ثم يضيف له سؤالًا آخر على شكل إجابة غير منطقية: هل يبحث عن ذاته؟ من دون أن يعلم أصحاب هذا الرأي، أن الكتابة كلّها أو المواهب كلّها، هي البحث عن الذات وتنمية النقصان في مواجهة الحياة، لأن الموهبة تأتي فطرة ثم تكبر، وإن الكتابة المتنوعة لا تأتي لمن لا يريد.. فهناك مثلا أطباء مشهورون هو أدباء، وهناك مهندسون ونجارون وحرفيون وحتى سياسيون أيضا هم أدباء، وهو انتقال من حقل حياتي علمي، مهني، الى حقل مخالف تماما لحقول الأدب. فهل يجوز مثلا إطلاق سؤال: هل يلجأ الطبيب الى الأدب لأنه يبحث عن ذاته الضائعة؟.
إنَّ أصحاب الفعل الواحد هم أصحاب الآراء المتعدّدة، ومن ثم تتنوّع آراؤهم ولا تتنوّع كتاباتهم.. تتوسّع نظراتهم في التقاط من يدخل الى أكثر من حقل في المساحة الواحدة، ولا يجرّب الدخول ليبحث عن ذاته كما عبّر عن ذلك. ولأنه بالأساس ليس له سوى موهبةٍ واحدةٍ جعلته يدخل حقلًا واحدًا مكتفيًا بما عنده، وليس له القدرة على استخراج الموهبة الأخرى التي ترتبط بالآراء بكلّ تأكيد، فهو قادر على التعبير برأيٍ مضاد ولا يستثمر هذا الرأي كتابة إيجابية.
إنَّ الإجابة لن تكون مخالفة البحث عن الذات لمن تتعدّد مواهبه وتعدّدت حقوله، بل الإجابة إنّ عدم الدخول ليس لأنها اختصاصات، والأدب ليس دراسة، فهناك الآلاف يتخرّجون سنويّا من كلية الآداب والمئات من الذين يحصلون على شهادات عليا، لكن كم منهم أصبح أديبًا أو ناقدًا؟ ولهذا عدم القدرة على الكتابة المتنوّعة هي عدم القدرة على معرفة الحقول الأخرى وما يجري فيها، ومن ثم غير قادرٍ على إنتاج (مخيّلات) تعينه على إنتاج نصّ أدبي في أيّ حقل.
إنَّ البعض الذين يطرحون آراءً مضادّةً لمن لديه أكثر من موهبة، يحاولون بكلّ بساطة جعل الأدب ما يشبه تصليح السيارات، فمن كان صبّاغًا لا يجوز له أن يكون (سمكريا) ومن كان مصلّح (راديو) لا يمكن أن يكون مصلّح (تلفزيون) لأنها اختصاصات تحتاج الى علم ودراسة، من دون التفريق أن الأدب هو إبداعٌ ذاتي، يبدأ نطفةً ثم علقة ثم مضغة قبل أن يُكسى بالعظام، لتكون القدرة على إنشاء خلق الأدب.