طه حسين والتاريخ الجديد

ثقافة 2022/04/09
...

 د. نادية هناوي
 
لا عجب أن يختلف مؤرخو الآداب العربية المحدثون في توجهاتهم تبعاً لتباين طرائقهم في تدوين تاريخ الأدب وما يعتمدونه من نظريات واتجاهات تحدد لهم وجهات نظرهم إزاء ما نقله إلينا المؤرخون الأقدمون من وقائع وأخبار. وبما يجعل أعمالهم تنقسم إلى شكلين من أشكال دراسة التاريخ الأدبي: 
الأول/ إخباري فيه التاريخ هو الماضي الذي أرشف بدقة ووثق بصدق، ولذا نقل المؤرخون عن القدماء من دون تثبت أو تدقيق في مدى اختلاط الخبر المروي بالمخيلة، مرتكنين إلى تصديق كل ما جاء في تواريخهم من أقاصيص وأخبار وحكايات غير معنيين بالتدقيق في الأسباب الحقيقية التي تحكّمت في حدوث الوقائع أو تفسيرها. ومثال هذا الشكل من الدراسة ما نجده في تواريخ جورجي زيدان والزيات والرافعي وغيرهم. 
الثاني/ نقدي تشكيكي يحتكم إلى إعمال العقل، استنادا إلى الفلسفة الديكارتية ومنهج لانسون خاصة والمدرسة الفرنسية عامة؛ لما لهذه المدرسة من أثر في امتلاك النظرية المعاصرة في فهم التاريخ. وليس المقصود بالمدرسة الفرنسية مدرسة الحوليات ومنهجها القديم في دراسة التاريخ؛ وإنّما مدرسة جاك لوغوف التي بدأت في العام 1924 وفيها اعتمد لوغوف منهجا جديدا في الدراسة التاريخية سمّاه (التاريخ الجديد) الذي أثار صحوة علمية كبيرة في فرنسا، اعترض عليها أصحاب الحوليات.. ومع ذلك بلور لوغوف أطر هذا التاريخ ورسّخ مسائله وحدّد تفرّعاته ثم أكمل تلامذته المشوار فكان لكل واحد منهم تاريخه المبتكر.
ولا خلاف أن يمثل طه حسين هذا الشكل من أشكال دراسة تاريخ الأدب ليكون من المتأثرين بكشوفات المدرسة الفرنسية متفاعلا مع تلك الصحوة، وهو بلا شك ذو صلة وثقى بالفكر الفرنسي منذ دراسته في السوربون بدايات القرن الماضي، مؤكدا أنَّ التماس العلم إنما يكون عند الإفرنج وما انتهوا إليه من نتائج حين درسوا تاريخ الشرق وآدابه ولغاته المختلفة إلى أن يتاح لنا ــ كما يقول طه حسين ـ (أن ننهض على أقدامنا ونطير بأجنحتنا ونستردَّ ما غلبنا عليه هؤلاء الناس من علومنا وآدابنا وتاريخنا).
والغريب في هذا الصدد أنَّ بعض الباحثين اللاحقين في دراسة التاريخ الأدبي كانوا مع معرفتهم بما كان أصحاب مدرسة التاريخ الجديد يعتمدونه في أبحاثهم التاريخية، نجدهم يحجمون في كتاباتهم عن تحديد من هم هؤلاء الناس؟، وماذا كانوا يقصدون؟، وما حقيقة العمل بروح جماعية أو فردية؟. 
بيدَ أنَّ طه حسين فطن لأهمية التاريخ في كتابه (في الأدب الجاهلي) وفيه دلّل على أنَّ مناهج البحث وطرائق التحقيق في دراسة الأدب وتاريخه متخلّفة وقديمة قياسا بمستوى المناهج التي كان الغربيون يعتمدونها في دراسة تاريخ الآداب وتحقيقها.
ولم يكن توجه طه حسين إلى مراجعة تاريخنا الأدبي والتشكيك فيه بحثا عن المنتحل والموضوع مجرّد خاطرة طارئة ولا فكرة عابرة؛ بل هو علم قائم بذاته ومنهجية لها أسسها التي ـ وإن كان بعض تلك الأسس ماثلة في حقب سابقة ـ  وطّدها هذا العبقري الذي استطاع أن يبلورها ويصوغها ليطلقها من عقالها ثورة تفتح الأبواب مشرعة للتنقيح والتشذيب وإعادة النظر والإنتاج، سعيا وراء الحقيقة وكشفا عن مكامن خامدة في إرثنا الأدبي والتاريخي وإعمالا لشرط الوعي العلمي والنظر العقلاني في ما حققه المحدثون من هذا التراث أيضا وبحثا عن الصحيح في كتب تاريخ الأدب العربي وتخليصا لهذا التاريخ من أدرانه وخزعبلات ما نقله مؤرخو الأدب الأقدمون عن كبار شعراء العربية وناثريها.
وتقوم منهجية طه حسين في غربلة تاريخ الأدب العربي وتنقيحه على أساس حفري فيه تاريخ الأدب ليس بعلم حديث فنطمئن إلى صحته ولا هو بالفن فنستبعد صدقيته؛ وإنما هو (وسط بين العلم الخالص والأدب الخالص: فيه موضوعية العلم وذاتية الأدب)  ومن المنطقي أن يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والجماعات. أما الباحث في تاريخ الأدب فإنه حر في مساءلة النصوص أو الأخبار أو الوقائع والأحداث تشكيكاً في صحة نسبتها إلى أصحابها وعصورهم وصولا إلى صحتها أو نفيها. 
ولم يسمِ طه حسين توجهه الحفري في دراسة تاريخ الأدب بالنظرية أو الأطروحة ربما لأن القاعدة الفكرية متحققة في ضوء الفلسفة العقلية الديكارتية.
لذا سمّى توجهه بـ (المنهج الفلسفي) في قوله: (أريد أن اصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت) أي على نيَّة الممارسة المنهجيَّة وليس التأسيس لفكر نظري. وفي كلا الحالين يكون طه حسين مناصرا الرؤية الحديثة في التشكيك بعمل المؤرخين القدماء غير مطمئن إلى ما قالوه. 
ونرى أنَّ هذا المنهج الفلسفي ليس سوى توظيف مبكر للفهم الجينالوجي في البحث الأدبي الذي يقوم على الحفر في السياقات والتنقيب في الأبنية الداخلية والأنساق الخفية، بحثا عن صحيح التاريخ ومزيفه. 
وهذا التوظيف هو بمثابة تأسيس لعلم جديد نسميه (علم البحث الحفري) فطه حسين أول باحث جينالوجي عربي أوصلته حفرياته إلى مسائل جد مهمة وخطيرة، لا بالمعنى الفلسفي الذي اعتمده فوكو في اريكولوجيا دراسة تاريخ المعرفة والجنسانية والسجون والجنون؛ وإنما بالمعنى الذهني لدينامية الحفر ومتعلقاته المعرفية والمفاهيمية. وفي مقدمتها التشكيك والتفكيك والتعليل والاستنباط والاستقراء والاختلاف والاحتجاج والدحض وغيرها.
وأول أساس حفره طه حسين في علمنة البحث المعرفي هو التجرّد من الأهواء والعواطف وتحكيم العقل منطلقا من مسألتين: الأولى رؤية أكاديمية تربط حركة الأدب بمدارسه، والثانية رؤية فلسفية تستلهم المعطى الديكارتي للعقل (اللوغوس) متأثرًا بمنحى سينيوبوس في التاريخ. 
ومن الأسس أيضا الصلة الوطيدة التي تربط الأدب بالتاريخ حيث الأول مندسٌّ في الثاني اندساسًا منطقيًا ليس فيه تعجب أو اندهاش. وكثيرا ما أكد طه حسين أن (تاريخ الأدب لا يستطيع أنْ يعتمد على مناهج البحث العلمي الخالص وحدها؛ وإنما هو مضطر معها إلى الذوق، هذه الملكة الشخصية الفردية التي يجتهد العالم في أن يتحلل منها. فتاريخ الأدب إذن أدب في نفسه من جهة لأنه يتأثر بما يتأثر به مأثور الكلام من الذوق). 
وبهذا الرأي الحفري المتقدم علميا وزمانيا يضع طه حسين مصداقية التاريخ بوصفه مدوَّنة كبرى مقدَّسة لا يطالها الخلل والزلل في موضع الاتهام والتشكيك، مؤكدا بشكل غير مباشر أن التاريخ عبارة عن سرود قصصية، فيها يلغى التعارض بين المنهج الذوقي والمنهج العلمي فتكون أدبية النصوص خاضعة لقانون الاحتمال الأرسطي الذي به يصبح الخبر المروي محتملا وليس حقيقيا.
ومن ثم يغدو الذي لا يشكك في صدقية التاريخ الأدبي هو واحد من اثنين: أما مخدوع أو مشعوذ، ملقياً باللوم على أتباع المنهجية القديمة الذين لا يقرون بأهمية التجديد المنهجي في دراسة تاريخ الأدب العربي.