الصومُ بوصفهِ نسقاً ثقافيَّاً

آراء 2022/04/09
...

 د.يحيى حسين زامل 
للصوم عدة أنساق فلسفية وشرعية واجتماعية وثقافية، وسندع النسقين الأولين لأصحاب الاختصاص، وسنركز على النسقين الأخيرين الاجتماعي والثقافي كنوعٍ من التماهي والأشتغال الأنثروبولوجي.وبداية تصوم المجتمعات الإسلامية والمسيحية واليهودية على حد سواء، فقد شرّع الصوم منذ القدم، فصار الفرض الثاني من بعد الصلاة. 
لذلك يمتد مفهوم الصوم من السياق التاريخي إلى السياق الثقافي، إذ لا يوجد دين أو طائفة أو جماعة، إلا وقد اتخذت من الصوم ممارسة دينية وروحية وثقافية تمارسها على مدى أيام السنة، وإن اختلف عدده أو وصفه، أو كونه متواصلا أو متقطعا، ومن الامتناع عن الطعام دون الماء، أو الصوم عن الطعام والشراب ومقاربة النساء، والاباحة في المساء، وهنا يؤدي الزمن دورا مهما في هذا الطقس أو الشعيرة الصامتة غير الصاخبة، فهي علاقة مفترضة بين الإنسان وخالقه، علاقة تتمثل بالجوع والعطش والغرائز، أمام طاقة الإله المتخيلة أو المتصورة في الذهنية البشرية. 
فنحن إذن أمام سلوك ديني وروحي وثقافي، في الوقت نفسه يعبر عن التصورات الدينية العالمية في الأرض، سلوك تعددت تاثيراته بين الطاعة والقربان والاستشعار بحال الفقراء من البشر، إنه تمثلات إنسانية في صور ذاتية تعبر عن حالة حرمان الجسد عن إشباع ملذاته التي يسلكها طوال عام كامل، كحالة تأديب ووضعها في قوالب عملية تتخللها نصوص كلامية من نصوص يرتلها الإنسان من دعاء وتقرب للحصول على البركة. 
وترتبط شعيرة الصوم بذكريات راسخة عند كثير من أبناء المجتمع، لاسيما وهم يمارسون طعاما مشتركا وجماعيا بالوقت نفسه طوال شهر كامل، وامامهم مختلف الأطعمة والأشربة، التي تحمل مذاقا خاصا وذكريات جميلة بعد يوم كامل من الجوع والعطش، فيصبح الطعام له لذة عجيبة ونكهة غريبة، لا سيما أن ربة المنزل تبذل قصارى جهدها وفنها في تلك المائدة الرمضانية.
ويمارس أبناء المجتمع إهداء بعض الأطعمة الخاصة، لا سيما الحلويات أو الأكلات الطيبة إلى الجيران أو الأصدقاء، فلا يعود الصحن خاليا وإنما يعود وقد امتلأ بطعام آخر، إنها عملية أشبه بـ “الكولا” التي درسها الأنثروبولوجي البريطاني “برنسلاو مالينوفسكي” في مجتمع “التروبرياتد” في أستراليا، عندما كانت القبائل تتبادل بالقلائد والاساور في رحلة تجارية واجتماعية بالوقت نفسه، وكذلك دراسة الأنثروبولوجي الفرنسي “مارسيل موس” في دراسته المعنونة “الهبة” أو “الهدية”، ومضامينها الإنسانية، وما تخلفه من تساند وتكاتف اجتماعي. 
وفي الذاكرة الثقافية الرمضانية هناك العديد من السلوكات الترفيهية، مثل لعبة “المحيبس”، وهي لعبة مشهورة في الثقافة العراقية، يمارسها الناس بعد الإفطار، وتنتهي اللعبة بأكل الحلوى لكلا الطرفين المتباريين، ولعل من الأغاني المنقرضة حاليا اغنية “الماجينة”، إذ يدور الأطفال على بيوت المحلة ويغنون هذه الأغنية ليهديهم أهل البيوت الطعام
 والنقود.
إنَّ الكلام عن الصوم لا يعدُّ دينيا بحتا، بل يمتد ويترسخ في العادات والتقاليد الاجتماعية، في العراق وفي البلدان العربية والإسلامية المجاورة، ويمكن أن يتداخل مع ثقافات واثنيات تعيش في الوسط الثقافي نفسه فيؤثر ويتأثر.