هل تنسجم الفيدرالية مع طبيعة المجتمع العراقي ؟

آراء 2022/04/09
...

 د. غانم فاضل
يشهد العالم تحولات كبيرة وتحولات كبيرة في أنماط الحكم السائدة في عالم تغلب عليه الدولة القومية ذات السيادة إلى عالم تتضاءل فيه سيادة الدولة، وتزداد الروابط ذات الطابع الدستوري- الفيدرالي، أي بمعنى، التحول من الدولة البسيطة إلى دولة مركبة، والعديد من هذه الدول تعتمد فلسفة الفيدرالية لنظامها السياسي
 
يشهد العالم تحولات كبيرة وتحولات كبيرة في أنماط الحكم السائدة في عالم تغلب عليه الدولة القومية ذات السيادة إلى عالم تتضاءل فيه سيادة الدولة، وتزداد الروابط ذات الطابع الدستوري- الفيدرالي، أي بمعنى، التحول من الدولة البسيطة إلى دولة مركبة، والعديد من هذه الدول تعتمد فلسفة الفيدرالية لنظامها السياسي، إذ وصل عدد هذه الدول إلى تسعة وعشرين دولة، متفاوتة في تطبيق النظام الفيدرالي، بمعنى آخر لا يوجد أنموذج واحد لمفهوم الفيدرالية يسري تطبيقه في جميع الدول، إذ تتباين ما بين دولة وآخرى في طريقة الإدارة والحكم وفقاً لسياسة البلد ودستوره، فضلاً عن الاختلاف في طريقة النشأة. وعليه يمكن القول، إنه لا يوجد هنالك أُنموذج فيدرالي موحد ونقي يمكن وصفه لكل المجتمعات والبنى السياسية المختلفة، والفيدرالية بهذا المعنى، ليس لديها الحلّ السحري للمشكلات والتحديات كافة التي تواجه البلدان.
 ولكون النظام الفيدرالي تجربة جديدة على أنظمة الحكم التي مرّت على العراق، ولأن فهمه وتبنيه، سياسياً واجتماعياً، لا يزال يثير الكثير من الاسئلة ما يجعله عرضة للاهتزاز وتكرار التجارب التاريخية المريرة التي مرت بها أشكال أنظمة الحكم 
السابقة.
حين دراسة وتحليل التجربة الفيدرالية في العراق بصيغتها الحالية، والتي أُنشأت بعد تغيير نظامه الشمولي في عام 2003، يستنتج أنها تعاني من إرث الحقبة الدكتاتورية، وفيها هياكل فيدرالية لم تكتمل معالمها بشكل واضح، وعليه فإن التجربة تشكلت وهي تعاني العديد من التناقضات، التي انعكست سلباً على تطبيق المفاهيم الحقيقية لها. وتبعاً لهذا، يحتل موضوع الفيدرالية في العراق أهمية كبرى، فمرة تثار الفيدرالية بشكلها العام، وتارة أخرى تثار بسبب تقاسم الاختصاصات والسلطات، ونشهد بين مدة وأخرى نقاشاً حاداً بسبب موازنة إقليم كردستان العراق، وتصدير النفط عبر الإقليم. 
والحق أن التجربة الفيدرالية ما زالت تواجه العديد من التحدّيات، تلك التي تتعلق بالنصوص الدستورية، وأخرى تتعلق بغياب مجلس الإتحاد (المجلس الثاني)، الذي يعدّ من المؤسسات المهمة في النظام الفيدرالي، وتارة أخرى تتعلق بالتجربة الفيدرالية برمتها والقائمة على وحدة سياسية واحدة فقط (إقليم كردستان)، ومحافظات غير منتظمة في أقاليم، فضلاً عن غياب الدور الفعّال للمحكمة الاتحادية العليا في حفظ التوازن 
الاتحادي. 
إن هذه الإشكاليات والتحدّيات يمكن إيجاد الحلول لها كما يبدو، خصوصاً أن التجربة في العراق مازالت ناشئة وحديثة، بمعنى ما زالت تمرُّ بمرحلة التحول السياسي. ولكن هنالك تحديا آخر، كما يبدو ليّ أكثر تعقيداً، يكمن في الثقافة السياسية للمجتمع والفرد العراقي. 
إذ من الواضح أن النظام الفيدرالي مشروط بمدى أستعداد وتقبل البيئة الاجتماعية الحاضنة له. بمعنى آخر، إن الفيدرالية ليست فقط مواد قانونية أو دستورية تكتب، بل لا بدّ من تطبيقها من قبل الفرد والمجتمع، وعليه أن معّيار الأنظمة الفدرالية لا يتجسّد في توزيع الاختصاصات بنصوص دستورية مكتوبة ونافذة، وإنما هي ثقافة سياسية ومجتمعّية يمتزج فيها الولاء المزدوج للدولة الاتحادية وللإقليم، وترتكز على هويتين، فرعية تابعة للإقليم وأخرى رئيسة وطنية للدولة 
الفيدرالية. 
أي أن فلسفة الفيدرالية قائمة على التعددية وليس الواحدية، وهي بهذا المعنى، تبتعد بذلك عن الحزب الأوحد والنظام الواحد والدولة المركزية، لتؤسس حالة يقودها تفكير لا مركزي، وقبول الآخر المختلف كشريك مهم، له جميع الحقوق وعليه جميع الواجبات في نظام متعدد، ويبدو أن المجتمع العراقي يفتقر في الوقت الحاضر لهذا النوع من الثقافة السياسية، حيث الولاء والهوية قائمة على أساس شعب واحد، ووطن واحد، وقائد واحد والحزب الأوحد، وقد يكون ذلك نابعاً من فكرة المجتمع الأبوي، الذي تكون (العلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم وبين الأب والابن علاقة عمودية) حسب ما يراه الكاتب هشام 
شرابي. 
ولكون فلسفة الفيدرالية قائمة على تقاسم السلطة أفقياً، فالآخر، وفقاً لخصوصيته الثقافية والسياسية وضمن اتفاق مسبق دستوري، له سلطة مكتسبة على صعيد تشريع القوانين وتنفيذها، وسلطة قضائية مختصة تعنى بشؤون الإقليم، فالتعددية بالسلطات على مستوى الأقاليم، كما يبدو غريبة على المجتمعات العربية ومنها المجتمع العراقي. وحين تمنح هذه الأقاليم السلطات الثلاث بموجب اتفاق دستوري، تظن بنفسها أصبحت كياناً سياسياً مستقلاً بذاته، له صلاحيات الدولة المستقلة كافة، وهذا ما رأيناه مؤخراً مع حكومة إقليم كردستان العراق، حين وصل الحال بالمطالبة بالاستقلال عبر تنظيم استفتاء لسكان الإقليم في 25 أيلول 2017. 
ولفهم طبيعة تقاسم السلطات بشكلها الأفقي، وليس كما هو دارج في المجتمع العراقي عمودياً، ولفهم الولاء المزدوج والهويات المتعددة الوطنية والإقليمية (الفرعية)، فنحن بحاجة لمزيدٍ من الوقت لفهم الثقافة التعددية وقبول الآخر 
المختلف. 
وإذا ما تجاوزنا هذه الثقافة السياسية بشأن الفيدرالية، فإن القوى السياسية هي الأخرى غير متفقة بشأن مضمون الفيدرالية وكيفية تنفيذها، فكأن ثمة فهماً للفيدرالية في المجتمعات العربية، بأنها نموذج للانفصال وتمزيق الدولة 
الواحدة. 
ومؤخراً تعالت أصوات بعض قادة الأحزاب السياسية بالمطالبة بنظام رئاسي، ظناً منهم أنه سيسهم في إيجاد الحلول لمشكلات وتحديات البلاد. 
ويبدو لنا، أن هذه الثقافة السياسية انعكست سلباً على طريقة كتابة الدستور، وعلى تشكيل نظامه الفيدرالي برمته، وعلى التهاون في تلبية متطلبات النظام الفيدرالي ومنها تشكيل مجلس الاتحاد. 
فثمة تنافر وتناقض في تكوين التجربة الفيدرالية في العراق، فما زالت البنية القبلية والعشائرية حاضرة، وهي امتدادٌ للمجتمع الأبوي، إذ تعدّ العائلة حجر الزاوية في البنّية القبلية، وهذه البنّية قائمة بشكلها العمودي والرأسي، فالقائد الواحد وشيخ العشيرة الواحد ورب الأسرة وهكذا، فثمة عقيدة أو مبدأ لهذه البنّية تضمرها بداخلها قائمة على، أنا قوي لماذا عليّ أن أتنازل؟ أو أنا ضعيف كيف ليّ أن أتنازل؟ وهذه العقيدة تخلق حالة من التناقض القائم بين البنية القبلية وتركيبتها العمودية وبين المفهوم الفيدرالي وتبنيها السلطة الأفقية، والتي كما يبدو، ستبقى حائلاً دون تلبية القيام بوظائف الفيدرالية على أفضل 
وجه. 
وعليه، إن التوافق بين الثقافة السياسية والبنّية السياسية ضروري لتأمين استمرار وانضاج النظام الفيدرالي. وإذا ما قارنا هذه الحالة مع الثقافة السياسية للمجتمعات، تلك التي تتبنى أنظمة فيدرالية مستقرة، فإن وعي المجتمع هناك تجاه الدولة الفيدرالية مختلف، حيث المبدأ يُنظر إليه عموماً على أنه ميزة في الحياة السياسية، وإن نجاح المفهوم، جاء من دون شك نتيجة القبول المجتمعي لمبادئ الفيدرالية وللمؤسسات والهياكل الفيدرالية، إذ يبدو، أن هذا القبول أكثر أهمية من الهياكل الفيدرالية نفسها، لما يتضمنه من استيعاب الهويات والولاءات المتعددة، وقبول الآخر المختلف، يرافقه شعور سكان الولايات بأهمية النظام الفيدرالي في تحقيق أهداف مشتركة وتطلعات تخدم كل المكونات 
والولايات. 
خلاصة القول، إن النظام الفيدرالي في العراق بحاجة حقيقية إلى إصلاحات جوهرية، من أجل تعزيز بناء الدولة وترسيخ النظام الديمقراطي وإنهاء حالة الانقسام التي يشهدها المجتمع العراقي، بمعنى، لا بدَّ لهذه التجربة الفيدرالية الناشئة في العراق، أن تخضع إلى المراجعة والتقويم، فضلاً عن إصلاحات مستمرة وجوهرية لانهاء حالة الأنقسامات السياسية والمجتمعية وترسيخ مؤسسات الدولة 
الفيدرالية.