فكرٌ سرديٌّ

ثقافة 2022/04/09
...

 عقيل عبد الحسين
 
مبدئيَّاً من الصعب الإحاطة بنتاج كاتب مثل محمَّد خضير في عدد قليل من الأسطر؛ لذا سأقسمه على مراحل ثلاث، أراها تقترب من الإحاطة بمجمله، مع الإشارة إلى أنَّ التقسيم يعتمد على المضمون الغالب على القصص. والمراحل هي: الاجتماعيّة والتأمُّليّة والسياسيّة. ويحسن أن أشير إلى أنَّ الفصل بين المراحل، فصلاً تامّاً، أمرٌ فيه شيءٌ من مجافاة طبيعة الكتابة السرديَّة عنده؛ لأنَّ القارئ يلمس التأمّل حاضراً في المراحل الثلاث، مثلما يجد البعدين الاجتماعيّ والسياسيّ حاضرين فيها، حتى في ما أسميتها المرحلة التأمّليّة، التي يغلب عليها التأمّل في العالم، باعتماد وسيط فيه بعد ترميزيّ، مثل المئذنة أو البرج أو الدار ذات الطوابق المتعددة. وتنتج من التأمّل رؤية تحيل إلى الكاتب. ولكنه، أي التقسيم، ضروريّ لفهم خط تطوّر الفكر السرديّ عنده. 
وسأضع "المملكة السوداء" في المرحلة الأولى. وموضوعاتها اجتماعية مثل الطقوس في "الشفيع"، واغتراب الإنسان في المدينة بسبب تغيّر العلاقات الاقتصادية في "أمنية القرد". وأضع مجموعتي "في 25 درجة مئوية"، و"رؤيا خريف"، في المرحلة التأمليّة. و"المحجر"، المجموعة الأخيرة، في المرحلة السياسيّة؛ لأنَّها تقارب حراك تشرين، وتصرّح أنَّها تفعل في المقدمات، وتتمثله في القصة "المجسر". إنَّ ما يميّز قصص محمَّد خضير علاقة الذات بالآخرين، وليس المضمون لأنّه يتأثر بتلك العلاقة المتغيّرة. وسأختصرها بعلاقتين، أسمي الأولى (الانفصال)، والثانية (الانسجام). وطغت العلاقة الأولى على المرحلة الاجتماعيّة والتأمليّة؛ فالذات مرتابة بالآخرين، ترفض الاندماج فيهم. الشيء الذي أنتج مرحلة اجتماعيّة سوداويّة، إلى حد ما، تكتفي بوصف الواقع الاجتماعيّ، مع إشارات إلى أنَّه ثابت، لا يمكن للذات أن تُحدّث فيه أيّ تغيير، وعلى العكس هو من يؤثر فيها تأثيراً سيئاً على مستويي الفعل والنفس. ويستمر هذا النوع من العلاقة، أي الانفصال، في المرحلة التأمّليّة. ولعلّ الأستاذ محمَّد خضير يستثمره خير استثمار في هذا المرحلة؛ لأن التأمل يحتاج الى انفصال عن الآخرين، وانشغال بالذات، ورؤيتها للعالم والوجود والثقافة، انشغالاً ينتج عنه موقف انطولوجيّ؛ فالتأمل تجربة صوفيّة تركز على تجربة الذات للعالم بعيداً عن أيّة ميتافيزيقيا أو أحكام مسبقة، ولعلّه موقف ضروريّ لإعادة النظر في علاقة الذات بالآخرين، ينتج عنه عند محمَّد خضير، الانتقال إلى نوع علاقة مغاير للنوع الأول، هو الانسجام، فالذات تقبل الآخرين، في رؤية جديدة للعالم، الذي لا ينتج من أفكار مسبقة، تتبناها الذات، عن العالم والمجتمع وقوانينه، وإنَّما من التغيّرات الاجتماعيّة التي تعتمد، كثيراً، على قوة الأفراد وفعلهم، وعلى تبادل التأثير بين المتغيّرات السياسيّة والأشخاص الذين يسعون إلى التحرر، وإلى أن يكونوا فاعلين في الحياة والمجتمع. ولعلّ هذه هي نقطة التحوّل في الفكر السرديّ لمحمَّد خضير، من فكرٍ متعالٍ أو مثاليّ، مشحون بالتصورات عن الذات والآخرين والعالم والنماذج الكتابية، إلى فكرٍ متماهٍ بالعالم، يسعى إلى تجربته، ويرجّح فاعليّة الفعل، وتبادل التأثير والتأثر بالمجتمع والعالم.