خطر الأسلحة النوويَّة اليوم أعظم مما كان أيام الحرب الباردة

قضايا عربية ودولية 2022/04/12
...

  باتريك كوكبرن
ترجمة: أنيس الصفار    
في الأشهر الأولى من العام 2003 كنت في مدينة أربيل، وكانت خارج سيطرة الحكومة العراقيَّة آنذاك، منتظراً انطلاق عملية الغزو بقيادة الولايات المتحدة. كان الكرد معتادين على أساليب الحرب التقليدية، ولكن الذي كان يخيفهم بحق هو إمكانية استخدام قوات صدام حسين الأسلحة الكيميائية ضدهم.
كانت لدى الكرد تأكيدات من الرئيس "جورج دبليو بوش" ورئيس الوزراء "توني بلير" وباقي دول العالم، بأنَّ الدكتاتور العراقي لا يزال يُخفي ما في حوزته من أسلحة الدمار الشامل. قبل ذلك التاريخ بخمس عشرة سنة، في العام 1988 تحديداً، استخدمت القوات العراقية غاز الخردل وعوامل الأعصاب لقتل 5000 مدني كردي في بلدة حلبجة، وهو أكبر استخدام للغازات السامة كسلاح ضد أهداف مدنية في التاريخ. لا غرابة إذن إن شعر الناس في أربيل وسواها من المدن الكردية التي لا تبعد كثيراً عن حلبجة بالخوف من أن تتكرر الفاجعة.
فرَّ معظم السكان من المناطق المدنية وضربوا مخيماتهم في السهول والجبال أو تحشدوا في القرى الصغيرة، أما من بقوا فقد اشتروا أغطية بلاستيكية وثبتوها بالمسامير على أبواب وشبابيك منازلهم ومتاجرهم في أمل يدعو للرثاء أن يتمكنوا من درء الغاز القاتل.
عندما انجلت الأمور تبين أنَّ أسلحة الحكومة العراقية الكيميائية والبايولوجية لم تكن أكثر من خيال، لكن الخوف الذي سببته كان حقيقياً تماماً.
هذا الخوف عاد فولد من جديد الآن بعد مرور 34 عاماً على واقعة حلبجة لأنَّ روسيا ليست كالعراق، فهي تمتلك أسلحة الدمار الشامل بالتأكيد وربما سيغريها ذلك باستخدامها. ففي يوم الخميس الماضي في بروكسل حذر الرئيس "جو بايدن" الكرملين من مغبة اللجوء إلى الأسلحة الكيميائية حين قال: إنَّ هجوماً كهذا سوف "يطلق رداً من ذات جنسه"، على حد تعبيره. لم يفصح بايدن عن ماهية هذا الرد لكن مجرد الظن بأنَّ الأسلحة الكيميائية مطروحة كخيار من شأنه إطلاق شرارة نزوح عملاق للأوكرانيين مثلما حدث في كردستان العراق.
كان السبب المعلن الذي قدمته الولايات المتحدة لتبرير افتراضها أنَّ روسيا ربما كانت بصدد دراسة مسألة اللجوء إلى وسائل الحرب الكيميائية هو ما ادعته روسيا حول وجود أسلحة بايولوجية قيد التطوير في المختبرات الأوكرانية التي يمولها البنتاغون. هذا الادعاء كان مجرد دعاية إعلامية غير متقنة كما يبدو والمختبرات المشار إليها إنما كانت تعمل على تنمية مسببات مرضية شائعة لأغراض تتعلق بالصحة العامة. التفسير الأرجح لاتهام الرئيس "فلاديمير بوتين" هو أنه كان يتلمس حوله بحثاً عن تهديدات متصورة يبرر بها للجماهير الروسية لم شنّ الحرب؟، وليس لأنه يخطط لاستخدام الأسلحة الكيميائية.
مع هذا تأتي إثارة موضوع أسلحة الدمار الشامل كدرجة أخرى على سلم التصعيد في أوكرانيا وإضافة جديدة إلى أسباب الشك الكالحة. في العراق كان مجرد وجود هذه الأسلحة أو عدم وجودها باباً مفتوحاً لجدال طويل، وفي سوريا بقي الخلاف محتدماً لبعض الوقت حول ما إذا كان هناك استخدام لها بالفعل أم لم يكن، وإذا كانت قد استخدمت فعلى يد من. أما في روسيا فليس هناك أدنى شك حول وجودها والقدرة الفعلية على نشرها فوراً.
أياً تكن حقيقة التهديد الناشئ عن الأسلحة الكيميائية فإنَّ خطر اللجوء إلى أسلحة الدمار الشامل قد ارتفع إلى مستوى لم تعرف له أوروبا مثيلاً منذ العام 1945. الأمر المنذر بالسوء أكثر هو أنَّ خطر حدوث تبادل نووي أرجح الآن مما كان عليه إبان ذروة الحرب الباردة بين القوى الغربية والاتحاد السوفييتي.
أضف إلى ذلك أنَّ هذا الخطر ليس ساكناً بل غدا أكثر جدية منذ أن أقدم بوتين على غزو أوكرانيا في 24 شباط، ومن بعد ذلك تصاعدت حدته على مدى الأسابيع الأربعة التالية مع تحول استعراض القوة الروسي إلى استعراض للضعف وانكشف أنَّ الآلة العسكرية الروسية التقليدية أضعف مما كان يتصورها أحد، فهي قد عجزت عن دحر الجيش الأوكراني الصغير وبالتالي ليس من المحتمل أن تستطيع الوقوف بوجه قوات الناتو. 
الوسيلة الوحيدة التي يستطيع الكرملين بها تحقيق توازن القوة عسكرياً إذن هي ترسانته النووية، وبالتحديد من خلال ما يتراوح بين 1000 و 2000 سلاح نووي تكتيكي بحوزته.
التأكيد على الخيار النووي ليس بالتطور الجديد منذ أن وعى الجيش الروسي قبل 30 عاماً أنَّ قوته آخذة بالانحدار. خلال الحرب الباردة الأولى، التي امتدت من أواخر الأربعينات إلى العام 1989، كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تركزان على الأسلحة النووية التي تفوق قدراتها قدرة القنبلة التي دمرت هيروشيما بما بين 2000 و3000 مرة، بذا كان "الدمار المتبادل المحقق" رادعاً قوياً دون شن أي ضربة نووية. بيد أنَّ التركيز على مدى العقود الأخيرة في الولايات المتحدة، وكذلك في روسيا بوجه خاص، أخذ ينحو صوب تطوير أسلحة نووية أصغر قدرة لا تتعدى طاقتها التدميرية ثلث أو نصف قدرة قنبلة هيروشيما. كان الهدف من خفض القدرة التدميرية هذا هو جعل تلك الأسلحة أكثر ملاءمة للنشر في ميادين المعارك لأجل تدمير رتل أو معقل عصي للعدو.
هذا الميدان ساحة خطيرة وهي غير مختبرة بعد، إذ لا يعلم أحد كيف سيكون رد الطرف الآخر، وتبادل الصواريخ النووية التكتيكية في الميدان المفتوح قد يتصاعد بسرعة ليتحول إلى دمار مروع للمدن بالصواريخ البالستية عابرة القارات.
منذ وقت طويل كان الجنود الروس يتدربون على التحول من نمط الحرب التقليدية إلى الحرب النووية على المستوى التكتيكي، وتشير التقارير إلى أنَّ الجيش الروسي قد أجرى تدريبات متكررة على كيفية استعمال الأسلحة النووية للدفاع عن منطقة كالينينغراد، وهي رقعة روسية مكشوفة على بحر البلطيق. يستند المؤيدون لانتهاج الناتو خطاً أكثر تصلباً في التعامل مع روسيا إلى حجة مفادها أنَّ بوتين قد لا يخاطر بالتورط في تبادل نووي، بيد أنَّ هذه الحجة تنطوي على رهان محفوف بالمخاطر لأننا لا نعرف كيف سيكون رد فعل الزعيم الروسي ومستشاريه عندما يكونون تحت الضغط. الأمر الواضح حتى الآن هو أنهم قد وقعوا في سلسلة من سوء التقدير الكارثي على مدى الشهر الفائت حين أخطؤوا في تقدير قوة المقاومة الأوكرانية وبالغوا في تصور القدرات العسكرية الروسية، كما أخطؤوا في حساب قوة رد فعل الناتو تجاه الغزو.
سجل كهذا حافل بأخطاء على كل هذه الدرجة من الجسامة والتخبطات، التي ربما كانت نابعة من الغرور والمعلومات المضللة، لا يمكن الاطمئنان إليه والركون إلى أنَّ بوتين ودائرته الداخلية سيكونان أفضل رأياً وحكماً حين يصل الأمر إلى الأسلحة الكيميائية والنووية.
من المفارقة هنا أنَّ أولئك الذين يميلون أكثر من غيرهم إلى مطالبة الناتو باتخاذ خط أكثر تشدداً تجاه بوتين، الذي يصورونه بالدكتاتور الشرير والمجنون، يمعنون في الجدل بأنه سرعان ما سيتراجع عندما يجد أنَّ لعبته انكشفت وأنه سيتلقى رداً قوياً. هذا التفكير الموشح بالتمني لا سند له اللهم سوى تلك القناعة التي حملناها معنا من أيام المدرسة والتي تزعم أنَّ "أي متجبر على الضعفاء يكون دائماً جباناً". لكن لا أحد يدري في الواقع كيف سيتصرف بوتين إذا ما وقع في مأزق وضاقت به الحيلة وألفى نفسه يناضل من أجل حياة نظامه.
لا ريب أنَّ القادة السياسيين يدركون هذه المخاطر ولكن الضغط الشعبي يضطرهم لإبداء صرامة أكثر، مثلهم مثل من سبقهم قبل قرن في زمن الحرب العالمية الأولى. الفوبيا الروسية هي المزاج السائد اليوم مثلما كانت الفوبيا الألمانية في 1914، ففي كاليفورنيا حذفت دورة أدبية موضوعها دستويفسكي (ولو أنها أعيدت بعد الاحتجاجات) كما أسقط تشايكوفسكي من برنامج موسيقي في كارديف. وإذ يزحف الروس متقدمين ببطء ساحق في أوكرانيا محاولين إخضاع المدن عن طريق قصفها بالمدافع والطائرات، تمتلئ شاشات التلفزيون الغربية بصور القتلى والأطفال المحتضرين. في أجواء كهذه لن تجد دبلوماسية التسوية سوقاً رائجة لها.
العامل الآخر الذي يجعل الحرب الثانية مع موسكو أشد خطراً من الأولى هو أنَّ الخوف القديم من حرب فناء نووية لا تبقي ولا تذر قد تلاشى إلى حد كبير. فواقع أنَّ تلك الحرب لم تحدث ولد شعوراً بأنها ما كانت لتحدث إطلاقاً من الأصل، في حين أنَّ أي تقييم واقعي لحقيقة المجازفة يوحي بأنَّ الخطر اليوم أعظم وأدهى مما كان عليه في أي وقت مضى.
عن صحيفة "آي" البريطانية