تراثُ المتصوِّفة مرآةُ عصره

ثقافة 2022/04/13
...

 د. عبد الجبار الرفاعي
(1)
   لم يكن ظهورُ التصوف إلا بصيرة مضيئة لاسترداد دين المعنى الذي ضيّعه علمُ الكلام، ومسعىً شجاعا للعودة إلى دين القيم القرآني، وإنقاذ الدين من اختزاله في علم الكلام والفقه خاصة، ليعود الدين مجددا إلى وظيفته بوصفه حياةً في أفق المعنى، ويكون منبعا للتديُّن الرحماني الأخلاقي العقلاني، ‏   ظهرت النواة الجنينيَّة للتصوف المعرفي مبكرًا في نصوص أبي يزيد البسطامي «ت 261 هـ»، والحسين بن منصور الحَلاج المصلوب سنة «309 هـ»، ومحمد بن عبد الجبار النفري «ت 354 هـ»، وفي شيء من آثار متصوفة بغداد.
وأسهم في بناء أسسه حكماءُ وعرفاء أمثال شيخ الإشراق شهاب الدين السهرودي المقتول سنة «586 هـ»، وعبد الحق بن سبعين «ت 669 هـ»، وصدرُ الدين القونوي «ت 672 هـ»، وجلالُ الدين الرومي «672 هـ»، وعبد الكريم الجيلي «ت 805 هـ»، وعبد الرحمن الجامي «ت 898 هـ»... وغيرهم، كلُّهم طبعوا بصمتهم في إنتاج تراث معرفي وروحي وأخلاقي ثمين، على تنوع تعبيراتهم بتنوع اجتهاداتهم، خارج نظام الاعتقاد المغلق الذي صاغه المتكلّمون لبناء المقولات الاعتقادية لفرقهم. كما تعدّدت رؤية أولئك الحكماء والعرفاء للوجود بتعدّد خبراتهم الدينية وتجاربهم الروحية وتكوينهم المعرفي. كلٌّ منهم رسمَ لوحتَه الميتافيزيقية لله وعوالم الغيب، وفي ضوئها رسمَ معالم طريق أسفاره إلى الله. 
  تكاملت وتعمّقت معالمُ الأركان النظرية للتصوّف المعرفي في آثار محيي الدين بن عربي «ت 638 هـ»، واتضحت بعد أن رسمَ لوحةً ميتافيزيقية يُمهِّد فيها لخارطة طريق توصل وجودَ الإنسان بالله. طريقٌ يسافرُ فيه الإنسانُ إلى الله من دون أن يتلوّث بالكراهية والدماء، طريقٌ يحتفلُ بتحويل الإيمانَ حُبًّا والحُبَّ إيمانًا، طريقٌ يحمي الإنسانَ من العنف والشرِّ المقيم في الأرض. لا أريد أن أُبشِّر بذلك، ولستُ داعيةً للانخراط في عرفان محيي الدين وأمثاله، لأنّي أعرفُ أنَّ كلَّ تصوّف يعكسُ تجربةَ المتصوف ونمطَ ارتياضه الروحي، وأن التصوّفَ مرآةٌ للأفق التاريخي الذي كان يعيشُ فيه المتصوّف. ما أنشده يتمثل في أن هذا التراثَ يمكنُ أن يجري توظيفُ شيء من عناصره الحيّة لإعادة بناءِ رؤيةٍ ميتافيزيقية للتوحيد، تحمي حياةَ أهل الأرض وعيشَهم المشترك من رؤية علم الكلام القديم للتوحيد، التي تحتكرُ الخلاصَ والنجاةَ في الدنيا والآخرة بمن يعتقد بها خاصة، وتحرّر المسلم من آثار ما ينتجه هذا الاحتكارُ من فشلٍ لجهود العيش المشترك في وطن واحد بين المختلفين في
المعتقد. 
  نقرأ في مؤلفات التصوّف المعرفي ما لا نقرؤه في غيرها من تراثنا، فهذه المؤلفات أنتجت رؤىً لم تتقيّد في تراثنا بمنطق التفكير العقائدي الانحصاري للمتكلمين، الذي يختزل النجاةَ بمن يؤمن بمقولات فرقته الاعتقادية. بعضُ الرؤى في التصوّف المعرفي يمكن أن تصير منطلقاتٍ لما يتطلبه عصرُنا من فهمٍ للدين ينبثق من رسمِ صورةٍ لله يضيئها الحقُ والخيرُ والعدلُ والإحسانُ والرحمةُ والمحبَّةُ والجمالُ والسلام. ولا أظن أننا، خارج إشراقات صورة الله هذه، نستطيع أن ننتج تديّنًا يداوي جروحَ أرواح شبابنا الذين اختنقوا بتديّن متوحِّش، ويحمي مجتمعاتنا من القتل العبثي، وينقذ أوطاننا من الانهيار. 
  يصعبُ جدًا وربما يتعذرُ الاعتمادُ على بعض مفاهيم ابن عربي وأمثاله لبناء رؤية توحيدية تنفتح على المختلف في المعتقد، لأنَّ مقولات الفرق الاعتقاديَّة شديدة الرسوخ في تراثنا وواقعنا اليوم، وتغذّيها باستمرار شبكات مصالح متنوّعة. مضافًا إلى تسلّحها بالمواقف التكفيريَّة المضادَّة، إذ كان الشيخُ محيي الدين بن عربي ضحيةَ العشرات من فتاوى التكفير، وكُتِبت عدةُ مؤلفات في تكفيره، فمثلا ألَّفَ برهانُ الدين البقاعي: «تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي»، وأفتى أبو زرعة ولي الدين العراقي في المسألة الحادية والعشرين من فتاواه المكّيَّة: «لا شك في اشتمال الفصوص المشهورة عنه على الكفر الصريح الذي لا شكَّ فيه، وكذلك فتوحاته المكّيَّة، فإنَّ صحَّ صدورُ ذلك عنه واستمرَّ إلى وفاته، فهو كافرٌ مخلّدٌ في النار بلا شك». وتضجّ مؤلفاتُ خصوم محيي الدين بمختلف الاتهامات له، ولا تتردّد بتكفيره، على الرغم من أن آثاره وأمثاله تخلو من تكفير أي أحد مهما كان موقفه مناهضًا له
وللعرفاء. 
  ما ألَّفه هؤلاء المتكلّمون والفقهاء من ردود على محيي الدين بن عربي كتبوه بلغة غريبة على لغة النظام المعرفي الذي يكتب فيه، وانطلقوا من رؤية ميتافيزيقية للتوحيد على الضدّ من رؤيته، ونقدوه بمغالطات لا تفكّر بمنطقه الخاص، وناقشوه بطريقةٍ لم تستوعب طريقةَ تفكيره. قرأتُ كتابات لمتكلّمين وفقهاء يجادلون محيي الدين بكلمات لا تشترك مع كلماته إلّا باللفظ، ولا تنطق بمعجمه ومصطلحاته الدقيقة. مصطلحات محيي الدين وأمثاله خاصة، لا يصحّ الدخول عليها ومحاكمتها بلغة تتنكّر لها، وإن كانت تشترك معها لفظًا، غير أنّها غريبة عنها مضمونًا. أحيانًا المصطلحات والكلمات المشتركة في معجم محيي الدين تختزن دلالات على الضدّ مما يستعملها المتكلّمون وغيرهم في مؤلفاتهم. 
  بعض كتابات محيي الدين والعرفاء فاضتها لغةُ القلب، لغةُ القلب واحدةٌ في الأديان. العرفانُ يتحدثُ لغةً واحدة، جوهرُ الأديان يتكلّمُ لغةً مشتركة تغذّيها الحياةُ الروحيَّة. الكتابةُ بلغة العرفان ناطقةٌ بأسرار القلوب، عندما يتكلّمُ القلبُ تصمت كلُّ اللغات. تكمن أهميةُ لغة الحلّاج والنفّري ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي وأمثالهم من العرفاء في أنّهم يتكلّمون لغةَ الإيمان الحرّ، هذه اللغةُ عابرةٌ لكلِّ المعتقدات. الإيمان الحرُّ يتكلّمُ لغةً واحدة يتجلى فيها المضمونُ المشترك للأديان، المعتقدات تتكلّم لغاتٍ متعارضة وأحيانا
متهافتة. 
علاقةُ الإيمان بالاعتقاد علاقةٌ عضويَّةٌ تفاعليَّةٌ تبادليَّة، بمعنى أنَّ الإيمانَ يولد في فضاء الاعتقاد، ويكون من جنسه، فلو كان الاعتقادُ حرًّا ينتجُ عنه بالضرورة إيمانٌ حرّ، ويوفّر هذا الإيمان مناخاتٍ يكتسب فيها الاعتقادُ مزيدًا من الانفتاح والحريَّة. وكما ينشأ الإيمان الحرّ في فضاء الاعتقاد الحرّ، تتطوّر معتقداتُ الحريَّات والحقوق في فضاء إيمان الحريَّة، في حين تترسَّخ في فضاء إيمان الاستعباد معتقداتُ
العبوديَّة. 
   العقلُ الكلامي يُنتِجُ معنى للدين على شاكلته، لذلك يعجزُ هذا العقلُ عن إنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي للدين كما نقرؤه في آثار العرفاء. رؤيةُ المتكلّم للوجود تختلفُ عن رؤية العارف للوجود، لكلٍّ منهما لغتُه في التواصل مع الوجود والحضور فيه والتعبير عنه. قلبُ العارف يسافرُ في عوالم الميتافيزيقيا ويغترفُ من إشراقات الأنوار الإلهيَّة، ويتحدّث عنها بلغة لا تبوح بها إلّا أسرار القلوب، وإن كانت هذه اللغة لا تبدو منطقيَّة على وفق منطق تفكير المتكلّم.
   معادلةُ إنتاج معنى لوجود الإنسان وحياته ملتبسة لدى المتكلّم، ينشأ الالتباسُ من اختلال التوازن بين متطلّبات العقل والروح والقلب وتعارضها. تحقيق التوازن صعب جدًا، أحيانًا يكاد يكون متعذرًا، في مجتمع قلما يحضر فيه التفكير العقلاني النقدي. متطلبات الروح كثيرًا ما أطاحت بتفكير العقل وحججه، وطالما كانت أشواق القلب على الضد مما يهتدي إليه العقل. ينهار التوازن حين يغرق الإنسان في متطلبات الروح ويُعطِّل العقل، وقد ينتهي ذلك إلى الغرق في اللامعقول والخرافة، وهو مصير سقط فيه كثيرٌ من المتصوّفة. حين ينسى الإنسانُ متطلّباتِ الروح والقلب ينتهي إلى اغتراب وشعور مرير بوحشة الوجود. 
   العقلُ هو المرجعيَّةُ في إصدار أيِّ حكمٍ ‏على أية قضية ‏في الدين والدنيا. الأديانُ والمقدّسات تتضخّم في المتخيل باستمرار، لا يضع هذا التضخّمَ في حدوده إلّا العقلُ. يظلُّ العقلُ هو المرجعيَّة الوحيدة في اكتشاف المتخيّل وبيان حدوده وآثاره.
   أودُّ تذكيرَ كلّ من يهتمّ بالكشف عن القيم الروحيَّة والأخلاقية والجمالية المُلهِمة في ميراث المتصوّفة إلى أنّي نبّهتُ أكثرَ من مرّة إلى أن تراثَ التصوّف سيفٌ ذو حدّين، وذلك يفرض على الباحثِ أن يتنبّه للثغراتِ المختلفة في كتب المتصوّفة، والوهنِ الذي يتغلغل في طياتها، وأن يتعاطى بيقظة مع آثارهم، فهي اجتهاداتٌ بشريَّةٌ وليستْ نصوصًا مقدَّسة.     على الباحث في التصوّف أن ينتبه إلى أنَّ تراثَ المتصوّفة لا يمكن استئنافُه كما هو في عالَمنا اليوم، لأنه كأيّ تراث آخر صنعه البشرُ ينتمي للأفق التاريخي الذي وُلد فيه، وهو مرآةٌ للعصر الذي تكوّن فيه، إذ ترتسمُ في هذا التراث أحوالُ ذلك العصر ومختلفُ ملابساته وشجونه. وهو تراثٌ يتضمن كثيرًا من المقولاتِ المناهِضة للعقل، والمفاهيمِ التي تعطّلُ إرادةَ الإنسان وتشلّ فاعليتَه، وتسلبه حريَّةَ العودة إلى عقله واستعمال تفكيره
النقدي.
نتحدث في المقال المقبل عن بعض تقاليد الاسترقاق ومسالك الاستعباد التي أخمدت الجذوةَ الروحيَّة المتّقدة في التصوّف.