سبينوزا والمرأة العجوز

ثقافة 2022/04/13
...

  برهان شاوي
من المعروف أن الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632 - 1677) يُعد أحد أعمدة الفلسفة الحديثة بعد ديكارت، كما يُعد أحد أهم مؤسسي علم الأديان المقارن، لا سيما في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) حيث فكك الأسفار الخمسة في التوراة وأنسنها وأعادها تاريخيا إلى كتابها من كهنة اليهود وأحبارهم بعد عودتهم من بابل، بل وأثبت بأنها ليست لموسى كما كانت المؤسسة الدينية اليهودية تدّعي. ناهيك عن رؤيته لمفهوم (الله) و(الطبيعة)، (الحرية)، (الجوهر)، (الإرادة) وما شابه، مما دفع الكنيست والمجمع اليهودي في أمستردام إلى طرده من الطائفة ونبذه، بل ولعنه ولعن كل من يتواصل معه، باعتباره مارقًا، هرطقيا، كافرًا. بينما سبينوزا عقل فلسفي وأخلاقي جبَّار. عقل جريء، عميق، إنساني وأكبر بما لا يقاس من تلك العقول المتطرّفة والمحافظة بل والمتحجّرة التي كفّرته ونبذته ولعنته.  
في الفلسفة كان سبينوزا قريبا من فيلسوف الشرق الأكبر ابن سينا (980- 1037) الذي سبقه بأكثر من ستمئة عام، على الرغم من أن الكثيرين يشيرون إلى تأثره بـ (ابن رشد) الذي كان الأشهر أوروبيا في ذلك العصر. 
قرب (سبينوزا) من (ابن سينا) تجلى في نظرية (الفيض الإلهي) وهي رؤية (ابن سينا) لوجود الوجود باعتبار من فيوض الله وإرادته، بينما يقول (سبينوزا) في إجابته عن سؤال (وجود الوجود) بأنَّ (الوجود هو نفحة الله). وبين عقل ابن سينا وعقل سبينوزا نجد نفحة صوفيَّة روحانيَّة. وليس بغريب بأنَّ طائفة (الكبالا) الصوفيَّة اليهوديَّة أعادت الاعتبار لسبينوزا واستلهمته باعتباره روحانيًّا صوفيًّا.
سبينوزا عقل مهيمن ومختلف عن كل الفلاسفة الذين سبقوه ومؤثر على معظم الفلاسفة بعده، فهو يُعد من مؤسسي الفلسفة العقلانيَّة، لذا قال عنه فيلسوف الظاهراتيَّة المثالي (هيغل 1770-1831) بأنَّ فلسفة سبينوزا تشكّل الصرح الأساسي لكل المشاريع الفلسفيَّة. 
الفلاسفة الماديون عدّوه فيلسوفًا ماديًا ملحدًا لأنه كان يرى (الله) متجسدًا في الطبيعة، كما كان يرفض مفهوم (الله) الموجود في الأديان. وهو هنا قريب من فهم (الهندوسية) و(الشنتو) لروح الخالق التي تراه خلل كل الموجودات. تراه في الحجر وفي خرير الماء وفي اهتزاز الأغصان وفي عطر الوردة. 
كثيرًا ما توقف فلاديمير لينين عند (سبينوزا) في (الدفاتر الفلسفية) باعتباره فيلسوفا ماديًا ملحدًا، بينما يعدّه الروحانيون والمثاليون مؤمنا ومثاليا، لأنه لم ينفِ وجود (الله) بل جعل الطبيعة تجسيدًا لإرادته. لكن سبينوزا كان مجددًا في رؤيته لمفهوم (الله)، لذا حينما كان يُحاصر الفيزيائي العبقري (ألبرت آينشتاين) من قبل الصحفيين ويسألونه عن (الله) وهل يؤمن بالرب فيقول (إن ربي هو رب سبينوزا).
هذا العقل الجبّار العميق كان إنسانا مسالما وغير متعصّب، يؤمن بحرية المعتقد والفكر، على الرغم من تأكيده بأن (الحرية) هي (وهم)، فنحن لسنا أحرارًا مهما ادّعينا ذلك. وإنما نخضع لقانوني: السببية والضرورة. وأنَّ الحر الوحيد هو (الجوهر الحر) أي (الله).  
ومع ذلك كان سبينوزا يعيش بتواضع العباقرة وفي ضيق حال وسط مشكلات عائلية متعبة مع أخته التي أرادت الاستيلاء على أرث العائلة وسلب سبينوزا حقه. العبقري سبينوزا كان يعيش مستأجرا غرفة في بيت أرملة عجوز وحيدة. وقد تناهى إلى سمعها أن سبينوزا كافر، ملحد، منبوذ من طائفته، لا يؤمن بالله ولا المسيح ولا الكنيست ولا الكنيسة، بل وتم لعنه ولعن كل من يأويه ويتحدث معه. 
كانت هذه المرأة العجوز الطيبة مسيحيَّة مؤمنة، فسألته ذات يوم قائلة: يا بني.. أنا أصلي يوميا وأذهب للكنيسة لتأدية القداس كل أحد، فهل ترى ذلك صحيحًا؟، فكانت إجابة سبينوزا، العقلاني الذي أرجع الدين والكتب المقدّسة إلى التاريخ، بل وألغى الصفات عن (الجوهر الحر) التي تتحدث عنها الكتب المقدّسة، فسألها قبل الإجابة: هل أنت مرتاحة لما تقومين به؟، فقالت: نعم. أشعر براحة الضمير حين أذهب إلى الكنيسة لتأدية القداس، فقال لها: إذن، ما تقومين به صحيحٌ جدًا ما دام ضميرك مرتاحًا لذلك. 
المعلّم سبينوزا يعطينا درسًا في التسامح وقبول الآخر وحريَّة الفكر والعقيدة. هي مجرد خاطرة عن التسامح وقبول الآخر وعدم التعصّب للمعتقد الشخصي.