الشاعر الكائن هناك

ثقافة 2022/04/13
...

 إسماعيل نوري الربيعي
متلمساً أثر الطين في مدينة حط عليها البرد بعناد يشوبه الرعونة. (كنت وحيدا وحدة المنار المنطفئ في ليلة البحر العاصفة). مختبئا في جرّة عتيقة. عامداً إلى إخفاء نفسه، كي لا يظهر أبدا. بين المظهر والظهور أعتنفته أعراض مس الشعر وجنونه والصخب الكامن فيه، حتى أفصحت القصيدة عن أعراض قابلة للمشاهدة والمعاينة.  في المتون والهوامش تتبدى ملامح الكائن الشعري الكامل التفاصيل.
 
 حيث التحولات التي تتجشمها التجربة، وآثارُ الوقت الكاشفة عن التغيّرات. أن تفوز بنفسك بوصفك كائنا أصيلا، أو الخسارة حين تفقد طريق الوصول إلى نفسك. وتلك أحجية (الأصالة وعدم الأصالة). حسب الشيخ جعفر (الكائن هناك) حيث لا حاجة لتبرير أو مقارنة بشيء آخر. 
(إنما الشعر في تصوري هو هذه الروح الكامنة في أي نص إبداعي، سواء كان فنا تشكيليا أو شريطاً سينمائياً أو مسرحية). روحٌ لا يمكن لها مغادرة روحها ونسيجها ونسغها وارتواءاتها وواقعها وناسها وأشيائها الفريدة. متشبث بمقياسه الخاص دون حاجة إلى مقدمات ومسوّغات ومبررات وذرائع
أو حجج.
متجشماً أحوال الإيهام في الحياة والاختلاط في الخَلَد، والارتباك في القلب، والاشتباه في المهجة والإشكال في النَعامَة والالتباس في النفس والألغاز في الوجدان، والتردد في الجَنان والتشوش في القلب، والتعمية في الراحة والحيرة في الرحمة والشبهة في الفَرَح. (في حالة كتابة القصيدة أكون محاطاً بالضبابية محاطا بالغموض، ومقيدا بدفقاتي الروحية الوميضة
الخاطفة). 
تقّحمات لا تعرف الانقطاع أو الذبول من أحوال وأهوال العمى والظلمة والعُجمة والغُمّة واللُبْس والجَمجَمة والإهلاك والدِقَة والرِقّة. وهكذا هو يطالع من غير انبهار (نخلة الله)، لا ينخدع بأجنحة (الطائر الخشبي). غير مهتم على الإطلاق بـــ (زيارة السيدة السومرية)، مخترقا الحيطان والجدران والستر (عبر الحائط في المرآة). يسوح بعينيه بعيدا حيث (أعمدة سمرقند) . 
متكئٌ على كتف أورفيوس بطمأنينة يُحسد عليها.  راسما ابتسامة ساخرة على طرف شفتيه، من تلك (السيرانات) اللواتي جئن برؤوس نساء وأجساد طيور. يملأن فضاء هور السلام سعيا لفتنة هذا الشاعر وغوايته. 
مستلهما درس يوريديس في؛ ألا ينظر خلفه؟! هذا الحسب الحسيب لا يفتأ مخترقا آفاق العالم بمشحوف وقيثارة سومرية، وجدها مصادفة منقعة بــ (الطين والخريط والنفاش والقصب والبردي، وريش البشوش والخضيري والبط. والكثير من الزوري والسيّاح والطابك والفوح، وبقايا الخنازير البرية). مستلا نسغ العالم حيث الاحتواء والامتلاك والحيازة والاشتمال والتَضَمّن والاشتمال، والضَمّ ما وسعت به
روحه. 
واقفا بأريحية غامرة على أبواب (هيديس وزوجته برسيفوني آلهة العالم السفلي) حاثا النادبات والبواكي المولولات، من (بنات السلف) النائحات الناحبات الناشجات، الصارخات الشاهقات، المستعبرات والمنتحبات المتأوهات، المتوجعات بكل ما لديهن من عَويل وعَوْلَة، كي يخففن عبء الوحشة والانتباذ على
الموتى. 
ويال (حزن المعدان) الموغل بوجده وصبوته وشوقه، والوجع الكفيل بملء العالم قنوطا وكآبة.  الملتاث حنينا وتوقا وتلهفا واشتياق. حسب الشيخ جعفر في كل هذا مستغرق في الإيقاع والنغمات ونشيد الإنشاد التي تطلقه البواكي، تسوح في روحه تلك الجملة المنغمة التي تطلقها النادبة؛ (بس الليلة عينني يالعيون). بمقام البيات تارة والصبا والحجاز وأحيانا بطور المحمداوي والصبا والركباني الذي يبكي الصخر الجلمود.  ومقامات أخرى تعزّ على أورفيوس وأجداده أن يجاروا نغمة واحدة
منها. 
حسب الذي يحسن العدّ والتدبير، الحريص على وضع كل شيء في موضعه السليم والكريم والصحيح.  الساعي إلى الكفاية بإعطاء الشيء ما يرضيه. الحسبان بقسيّه ووسائده والأرائك المرصوفة. حسبك يا حسب أنك الوازن والممارس، والملاحظ الفاحص، العارف المفتون، والمعاير السابر. حسب الذي يعجم على المستمع إن هو إلا الراز المجرب، والمستقصي المختبر، والمُبتلى الخبير. وهذا ما كرم فاض عن المرحوم الشيخ جعفر أبو جناح، حين أطلق عليك هذه التسمية الفريدة والنادرة، حتى ليبحر المرء في تفصحها والتمّعن بها. 
(الْحَاسِبِينَ، الْحِسَابُ، أَحَسِبَ، أَفَحَسِبَ، أَفَحَسِبْتُمْ، أَيَحْسَبُ، أَيَحْسَبُونَ، بِحُسْبَانٍ) ولك أن تشتق ما شاء لك من الأسماء والأفعال والنعوت. فيما ما أزال محتارا في نطق مفردة (حسب). مترددا تائها، تملؤني الخشية والفرق من هذا الامتحان العسير. حسبي أني تجرأت، وأعلم أن لهذه الجرأة عواقبها الوخيمة. ولكن؟!