المتفرّد الذي جعل لغة القصيدة لعبةً يلهو بها

ثقافة 2022/04/13
...

 البصرة: صفاء ذياب
منذ مجموعته الشعرية الأولى (نخلة الله) في العام 1969، قدّم الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر نموذجاً مغايراً للشعر العربي، وربّما كانت مجموعته الثانية (الطاير الخشبي) وبعدها (زيارة السيّدة السومرية) وما جاء بعد هذه المجموعات، كانت ابتكاراً للقصيدة المدوّرة التي فتحت الباب أمام الشعراء العراقيين والعرب للتجريب في بناء القصيدة الحديثة، فجعفر، الذي يعد الابن البار لآباء القصيدة الحديثة، كان له الأثر الكبير في القصيدة السبعينية والثمانينية في العراق، ومن ثمَّ أصبح نموذجاً للشاعر الملتزم، شعراً وموقفاً، فأخلص للشعر، على الرغم من إسهامه الواضح في كتابة المقال الصحفي الذي استمر في نشره في مجلة عمان الأردنية وغيرها من المجلات العربية، فضلا عن كتابته أكثر من رواية، عدها النقاد امتداداً لروحه الشعرية العالية.
 
جعفر الذي رحل عن عالمنا قبل أيّام يمثّل مرحلة فاصلة في الشعرية العراقية، فكيف يمكن لنا أن نقرأ أهميته عراقياً وعربياً؟
 
بثُّ الحياة
يقول الناقد الدكتور حاتم الصكر إنّنا إذ نفقده اليوم لا نشعر أنّه يغيب، هو بيننا بأكثر من إشارة تقود إليه: نلمح في ما يشبه شريطاً سريعاً: سيكارة وكأساً وكتاباً وكرسياً وحيداً تحت آخر شجرة في ليل نادي الأدباء ببغداد. يدعو أضيافه المتخيلين، يستقدمهم من العمارة وأطرافها التي سار على أديمها، وراقب بطها وطيورها، وخيالات فلاحيها وصياديها ومجانينها وحكمائها.. حتى موسكو التي هبّت صقيعاً يستفز رؤاه، ويمنحه ذلك العشق الذي لم يحجز عنه نخلة الله، التي مثله  في الفقد، فهي ليست لأحد. نواة وحيدة ترعرعت  في يتمها، وكان ثمرها يشير إلى تلك العزلة الفائقة.
مضيفاً: زوبعة تحنو ورمال تتذكر، وابن هانئ يتجسّد بينهما باحثاً عن جرّة مخبَّأة تحت شجرة في بستان خيالي يبحث عنه حسب منذ بواكير شعره. واليوم إذ يمضي إلى حيث تعيش الكائنات أبديتها ويترك هذه الحسرة المركبة فينا نحن قراؤه ومحبوه. 
فإنّما ليوقظ ذلك الحلم فينا ويمضي كلٌّ إلى ما يتخيّل من جرار، يلاطف الحزن ويناوره بالكلمات والصور.. يهرب لأشكال مقصاة يبثُّ فيها الحياة؛ لتحمل دلالات الفقد الذي يمتلئ بها
صدره:
(فكن يا ابن هانئ ما شئت، كن حجراً أو نديماً
كن موجة أو  شراعاً
كن صخرة أو صدى كن مدى أو ندى في انتظار الهوادج، في الجرّة الوجه والظل).
 
نسيج وحده
ويشير الشاعر الدكتور يوسف إسكندر إلى أنّه قد لا يكون جديداً وصف الشاعر العراقي الكبير حسب الشيخ جعفر بأنَّه ملهم نبؤيّ للشعر العراقيّ الحديث، ولكن قد يكون جديداً القول إنَّ حسباً إذا كان قد ألهم بعض من سبقه من الشعراء كالبياتي مثلًا (فهنالك عدد من التناصات قد تصل حدّ التطابق بينهما كان حسب الشيخ جعفر السابقَ والبياتي لاحقاً)، فضلاً عن القصيدة المدوّرة الكاملة، فإنَّه لم يستطعْ أحدٌ ممّن لحق به من الشعراء أن ينحو منحاه الشعريّ: فهو نسيج وحده؛ مزيجٌ من الإيقاع المتراكب في تصاعدٍ بوليفونيّ قلّما نجد له مثيلاً، والصور الهذيانيّة المتتابعة في نسقٍ تخيّليّ يعتمد ذاكرة صافية لصبي القرية الساحرة بجمالها وجلالها التي أصبحت يوتوبيا حلميّة يعود إليها الشاعر وهو يواجه جدران المدينة وإسفلت شوارعها وعزلة باراتها التي تكنس وجهه كلَّ ليلة كأوراق الخسّ، حتى لم يبقَ منه، على حدّ تصويره، إلّا وجه نبيّ ميّت: «يمتصني الإسفلتْ/ وجهَ نبيٍّ 
مات».
 
بريق التفرّد
ويرى المرواتي عمار أحمد أن الشيخ جعفر وليد إبداعي لتقاطبين الأوّل تقاطب الريف الفقير بمؤثثاته/ المدينة الثرية بالفخامة والتفاصيل والتقاطب الثاني تقاطب الجماعة/ الفرد.. وقد خرج بهما/ معهما بفرادته في جعل الشعر سؤالاً دائم الطرح استند في توجيهه للعالم إلى الإيقاع. فصار معه الشعر، ذاك السؤال الوجودي وصار الإيقاع هو الحل.. متحدّثاً عن إيقاعاته الداخلية والخارجية التي صار التدوير فيها شكلاً ومحمولاً، وكأنَّ الحرف المركزي في التدوير صار صلة الوصل بين التقاطبات، والسؤال والحل.. إنَّ من مظاهر خصوصية الشيخ جعفر كونه كفّة ميزان الشعر الحر مناظراً لمحمود درويش، فكلاهما أخلص لهذا الفضاء التشكيلي والتعبيري معاً، فصارا امتداداً حيّاً للتجديد الكبير الذي خلقته المدرسة الشعرية العراقية نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات، كما أنَّ ترجمة الإيمان العالي بالذات واختيار العزلة ليست مهمّة سهلة؛ لذا فقد كان الشيخ جعفر إنموذجاً من ضمن نماذج عالمية آمنت بأنَّ صوت الشعر الخالص المنفرد يحمل في تفاصيله قوّة الجماعة، وأنَّ اتساقه ضمن الجماعة الصائتة كجوقة يفقده بريق الانفراد والتفرّد.
 
تغيير الحياة
ولا يختلف الشاعر علي نوير حول أهمّية المنجز الشِعري للراحل الكبير حسب الشيخ جعفر، وعلى امتداد ستة عقود إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار بداياته البعيدة منذ أوّل نشر له عام ١٩٥٨ في المختارات الشِعرية التي أعدّها وأشرف عليها الشاعر عبدالرزاق حسين (طُبِعت في النجف)، مُقدّماً فيها عدداً من الشعراء الشباب وقتذاك، منهم: محمود البستاني، عبدالأمير الحصيري، وحسب الشيخ جعفر الذي لم يكمل ربيعه السادس عشر بعد.مبيناً أنَّ أهميّة هذا المنجز تتجلّى في دواوينه الأربعة الأولى التي تم طبعها بكتاب واحد عام 1985، إذ إنّها تشتمل على قصائده المدوّرة التي بدأها بـ(قارة سابعة) ورباعياته الثلاث من ديوانه (الطائر الخشبيّ)، لتصبح هذه القصيدة السمة الأبرز في ديوانيه الآخرَين: (زيارة السيدة السومريّة) و(عبر الحائط في المرآة). وقد استحقّ شاعرنا ريادة هذا اللون من الشعر إذ كرّس له أكثر من ديوان بعد أن كان مجرّد محاولات منقطعة لعدد من الشعراء العرب.لقد حقّقت له تجربته الدراسية والحياتية في موسكو للأعوام 1964، 1965، 1966 تلك الصدمة الحضارية التي منحت شعره نسغاً مُغايراً تماماً. فإذا كان الشِعر لا قدرة له على تغيير الحياة، فالأولى بالحياة أن تغيّر هذا الشِعر، وهذا ما فعله الشاعر حسب الشيخ جعفر منذ منتصف ستينيات القرن الماضي.
 
الشاعر الجوهري
وبحسب الشاعر كريم ناصر فإنَّ الانحياز إلى الشعر مبدأ ويمكن أن نستخلص من هذا التوصيف أنَّ الشعر قضية جوهرية، ولذلك قلمّا نجد شاعراً يترك أثراً جمالياً نابضاً مثلما ترك لنا الشاعر «حسب الشيخ جعفر» أثراً أدبياً جماليّاً غطّى مساحات في مناطق السرد/ قصيدة النثر الحداثية/ قصيدة التفعيلة. ففي ذهابه إلى العالم الآخر قد تنتهي مرحلة شديدة الحساسية في الشعر العربي أسسّ لها الشاعر معتمداً في استنتاجاته على تجارب عالمية لابتكار نمط شعري من حداثة ترمي في حقيقتها إلى تقنية تدوير الشعر انطلاقاً من التحوّلات البنيوية لقصيدة التفعيلة لتصبح ظاهرة خاصة مع أنَّ أسبقية الابتكار لا تعود إليه وحده بيد أنّه عمل على تطوير هذه البنية الشعرية وساهم في نضجها وإخصاب فضائها برؤية عميقة انفصلت عن سياقات مرجعيات سابقة من أدونيس وغيره.
مبيناً أنَّ اتساع مساحة اللغة والتميّز والخصوصية في بناء الجملة الشعرية من شأنه أن يرقى بالمعاني الدلالية إلى مستويات عليا تجعل من الشعر عالماً ذات دلالة، في تتبّعنا لهذا الرائد نستطيع أن نلمس هذه الخاصية الجوهرية التي مهّدت لفضاء التجديد والتطوير والتجريب الأسلوبي والمهارات الشعرية، فضلاً عن التحوّلات الفكرية في مستوى الكتابة لاسيّما في القصيدة المدوّرة التي منحها بعداً فنياً حضاريّاً من حيث الشكل والوظيفة الدلالية.. إلّا أنَّ هذا التطوّر لا يجسّد كلّ اكتشافات الشاعر الدلالية إذا لم تكن لها خصائص جوهرية، من هنا تكمن أهميته الشعرية في تبلور أسلوبه اللغوي الذي يفتح أفقاً لرؤى تفضي إلى ابتكار أنماط شعرية ذات حيوية في الشعرية العربية، وبهذا النهج الشعري أبقى الأسئلة مفتوحة على الوجود في ما يتعلّق بالذات الإنساينة وعدميتها مستنداً إلى لغة الأساطير والرموز ومروراً بعالم التصوف وبالأدب الشكسبيري (السونيت) مستلهماً من إليوت وبيرس وبوشكين وألكسندر بلوك ويسنين ومايكوفسكي وغابرييلا ميسترال تجلّياته الأدبية والفكرية والفنية في عالم لا يمكنه الفكاك من سطوته.
 
ذاكرة تلهو
ويستذكر الشاعر جمال علي الحلاق لأنه خلال إقامته في عمّان (2001- 2005) كان مُدمناً على قراءة (سونيتات) حسب الشيخ جعفر التي كان ينشرها بشكل متواصل. «كان يبدو لي فيها طفلاً كبيراً يقيم خارج الحُلم، ولا يملك إلّا اللّغة فاتّخذها ملهاةً له، تماماً كما فعل أبو العلاء المعرّي من قبل في (لزوم ما لا يلزم).
ويبين الحلاً أنه يرى الشيخ جعفر شاعراً غريباً عن لحظته، يُقيم خارج الوقت، وحيداً في الحشد، يلهو بالكلمات، يستمتع برنينها وهي تتدحرج كدراهم، ويفرح بلمعانها وانعكاسات ضوء أحرفها أيضاً، ويظنّه قد أمسك ثور اللّغة من قرنيه، لكن بعيداً عن كلّ ما يدور حوله، لقد أغلق بابه فلم يعد بحاجة إلى العالم. هكذا، توقّف الحُلم عن الجريان، وبدأت الذاكرة تملأ الفضاء بمجرّاتها ونجومها.