«عقب أخيل».. حلف الناتو

قضايا عربية ودولية 2022/04/14
...

 فيليب أولترمان
 ترجمة:  أنيس الصفار  
 على بعد نحو 30 كيلومتراً غرب الحدود البيلاروسية تتقدم دبابات العدو عبر غابات الصنوبر اللثوانية مسرعة إلى أن يعترضها حاجز مصطنع من الأسلاك الشائكة يغلق عليها الطريق. على الفور يثب من المركبة المدرعة في المقدمة جنود يحملون في أيديهم معدات القطع ليباشروا فتح الطريق.
 
سرعان ما يدوي صوت انفجار يصم الاذان، فالمجموعة المتقدمة المندفعة بلهفة لتحقيق النصر أغفلت التدقيق في فحص الأراضي الرملية الممتدة ما وراء الحاجز تحسباً لوجود ألغام. من حسن حظ المجموعة أن تلك كلها ليست سوى بروفة تدريبية لمواجهة مفترضة تدور أحداثها بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.
في مناورات “الغرفين المنتفض” هذه (الغرفين حيوان أسطوري له رأس وجناحا نسر وجسم أسد – المترجم) التي يجريها حلف الناتو في قاعدة “بابراده” العسكرية شرق لثوانيا لا تستخدم المتفجرات الحية بل يتصل الحكام ليبلغوا قادة الدبابات بلطف ان مركباتهم كانت ستتمزق إرباً في مثل هذا الموقف. أما العدو الروسي فتمثله هنا مجاميع من الجنود الأميركيين والنرويجيين المتنكرين بالزي.
ربما يكون المدافعون الغربيون قد سجلوا نصراً تكتيكياً على المعتدي الشرقي في هذا الصباح المشمس من شهر نيسان، بيد أن البنية الأمنية لحلف الناتو لم تبدُ يوماً أكثر هشاشة منها في ربيع 2022، خصوصاً عند النظر إليها من خلال لثوانيا، وهي دولة كانت تعتبر منذ وقت طويل نقطة ضعف التحالف ومقتله، أو كما توصف “عقب أخيل حلف الناتو”.
لثوانيا جمهورية مستقلة منذ العام 1990 واقعة في أقصى جنوب دول البلطيق الثلاث، وهي تحادد من جهة الشرق بيلاروسيا، المتحالفة مع روسيا، وعند خاصرتها الغربية يقع جيب كاليننغراد الروسي. عبر شاشات التلفزة الروسية يحث النقاد والمحللون الكرملين بكل صراحة على تصعيد الحرب في اوكرانيا من خلال فتح ممر عنوة بالقوة العسكرية على امتداد ما يسمى “ثغرة سوالكي”، وهي المسافة القصيرة من الحدود بين لثوانيا وبولندا، وبذا يتم قطع دول البلطيق عن بقية الأراضي المتحالفة مع الناتو.
يقول “غابرييليوس لاندسبرغز” وزير خارجية لثوانيا: “حتى شهر تشرين الثاني الماضي كان الجيش الروسي بعيداً عن حدود حلف الناتو، أما الآن فإن الفعاليات العسكرية تدور على مقربة شديدة. علاوة على ذلك فإن لثوانيا تقع بين الأراضي البيلاروسية وجيب كاليننغراد، وهذا يضعنا في موقف ستراتيجي حرج.” منذ العام 2016، وبعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، تمركزت مجموعات قتالية تمثل “التواجد المتقدم المعزز” في أربع دول كلها أعضاء في الجناح الشرقي لحلف الناتو، وهي بولندا واستونيا ولاتفيا ولثوانيا. جعلت الحرب في أوكرانيا التحالف يصعد من تعزيز تواجده في المنطقة بإرسال كتائب متعددة الجنسيات إلى رومانيا وبلغاريا وهنغاريا وسلوفاكيا. كذلك رفع مستوى التواجد العسكري في لثوانيا من 1200 إلى 1600 جندي تقريباً وتم تزويده بمعدات جديدة مثل أنظمة “أوزيلوت” الخفيفة المتحركة المضادة للجو التابعة للجيش الألماني والتي تستخدم لحماية المطارات من الهجمات الجوية. بيد أن مهمة هذه الوحدات العسكرية لن تتعدى كونها “أسلاك إعاقة”: فهي تذكير للمتشددين في الكرملين بأن غزو ما قد يعتبرونه دولة مارقة منفصلة عن الامبراطورية الروسية السابقة من شأنه أن يطلق تلقائياً زناد مواجهة عسكرية مع دول أوروبية غربية أخرى. لكن قياساً على الوضع الراهن لن يكون ثمة شك في أن وحدات “التواجد المتقدم المعزز” سوف تتعرض للاجتياح إن عاجلاً أو آجلاً.
السيناريو الذي يجري التدرب عليه من خلال تمارين “الغرفين المنتفض” هو سيناريو المواجهة بين داوود وجالوت، حيث تتقمص القوة المهاجمة دور العملاق. يقول أحد الضباط: إن الأولوية بالنسبة لجنود الناتو المشاركين في المناورات هي “تأخير العدو” وليس الإمساك بخط الصد.
وإذ يستعد أعضاء الناتو للقاء مدريد في شهر حزيران تناشد لثوانيا، ومعها جارتها البلطيقية استونيا، حلف الناتو لإعادة ترتيب عاجل لوضعه في المنطقة والانتقال من الردع إلى ما تسميه “الدفاع المتقدم”.
يقول لاندسبرغز متحدثاً إلى الصحافة: “ما نراه الآن في روسيا وبيلاروسيا هو بلد خطير يبيت النية لمهاجمة دول أخرى ذات سيادة. إنه نصل ذو حدين، فروسيا من ناحية قد اثبتت في اوكرانيا أنها قوة إقليمية على طريق الانحدار، ومن ناحية أخرى تبقى هذه القوة قادرة على إيقاع كثير من الضرر وهي في طريق انحدارها، إذ لا يبدو أنها تكترث بخسائرها. علينا أن ندافع عن دول البلطيق، وخصوصاً تلك التي تهم روسيا جغرافياً.”
تماشياً مع “قانون التأسيس”، وهو اتفاق سياسي وقع من قبل الناتو وروسيا في العام 1997، هناك قيود تحدد أعداد الجنود التابعين للتحالف الغربي الذين يسمح بنشرهم في البلطيق، ومدى القرب من الحدود الذي يسمح لهم بالتمركز ضمنه.
يخضع التواجد المتقدم المعزز في لثوانيا، المكون من سبع دول أوروبية بقيادة الجيش الألماني، لدورة مناوبة كل ستة أشهر بتكلفة وجهود كبيرة، حيث يترتب نقل مئات المركبات باستخدام الطرقات والسكك الحديدية والطائرات في كل دورة.
رغم أن دولاً مثل ألمانيا وبريطانيا تبقى ملتزمة بما ورد في قانون التأسيس تقول لثوانيا ودول أخرى في المنطقة: إن الوثيقة المذكورة لم تعد سارية المفعول كمعاهدة.
يقول لاندسبرغز: “من جهتنا نعتبر المعاهدة لاغية بعد ما ارتكبته روسيا. الواقع الجديد الذي علينا تقبله الآن هو أن المعاهدات التي قامت على أساسها البيئة الأمنية القديمة مع روسيا لم يعد لها وجود. علينا الآن أن ننظر بأعين جديدة، وينبغي أن يكون هناك حضور عسكري دائم مزود بكل ما يتطلبه الدفاع عن الأجواء والبحار والأراضي التابعة لدول البلطيق.” في الأسبوع الماضي طالب رئيس وزراء استونيا بتسليم دول البلطيق الثلاث ما وصفه بـ”قدرات قتالية حربية” بالإضافة إلى فرق يصل تعدادها إلى 25 ألف جندي لكل دولة.
قال لاندسبرغز: “السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو .. كيف ستكون البنية الأمنية العالمية الجديدة بعد هذه الحرب؟ ما نفعله حالياً لا يعدو أن يكون ردود فعل لما يجري في اوكرانيا، ولكن هذا يجب أن يتغير .. علينا أن نبدأ التفكير بمنظور ستراتيجي.”
 
عن صحيفة الغارديان