فاعليَّة الخيال الأدبي في تجربة سعيد الغانمي

ثقافة 2022/04/16
...

مهاد 
في كتاب “فاعليَّة الخيال الأدبي”، يُقدّم الغانمي مجموعة من المفاهيم والتصورات حول نظرية المعرفة، وما يعنيه في مفهوم “القراءة بكل الحواس”، ليطلق لنا كشوفاً خاصة عن مشاريع شعراء وفلاسفة، ويقول “لاحظتُ أنَّ البحث في الأصول البلاغيَّة للأفكار يقتضي منّا ألّا نتبنَّى أيَّ منهجٍ لعلمٍ بذاته.
فهذا البحث لا ينتمي للفلسفة، ولا للتاريخ، ولا لعلم الآثار، ولا للتَّحليل اللُّغويِّ، بل هو حقل جديد يمشي في ما بين الحقول، وعلم جديد يقع على المشارف والتُّخوم بين العلوم المختلفة. 
ولهذا فهو يحتاج إلى التَّزوُّد بعدَّةٍ تنتمي إلى هذه العلوم جميعاً، مع الاحتياط لعدم الوقوع في مركزيَّة أيِّ علمٍ منها”.
هذه الحواريَّة تُقدّم كشفا آخر عن مشروع الغانمي.
........
*  إلى أيِّ مدى استطعتَ تحويل الأدب إلى عمود من أعمدة نظريَّة المعرفة؟
- لن أتردَّد في القول إنَّ صلب مشروعي يسعى إلى تحقيق هذا الهدف.
وقد بيَّنتُ في “فاعليَّة الخيال الأدبيِّ” أنَّ الفكر البشريَّ بأسره كان يقوم في الطَّور الأوَّل من أطوارِهِ على فاعليَّة اللُّغة، أي على ما صرنا نسمِّيه لاحقاً بالأدب.
كان الإنسان في عصوره الأولى يفكِّر بالأشياء من خلال اللُّغة.
ابتكر الأدب السُّومريُّ الأساطيرَ وبعض الحكايات البطوليَّة.
ثمَّ استطاع الأدب البابليُّ أن يبتكرَ صنف الملحمة.
وكان هذا إسهاماً عظيماً في تطوُّر تاريخ وعي الإنسان لذاته.
وبقيت الحضارة تنمو حتّى توصَّل الفكر اليونانيُّ إلى بناء منظومة عقليَّة من أحجار أُطلِقَ عليها اسم “المفاهيم”، وأُعطيَ الحقل الذي يُعنى بها اسماً رمزيّاً هو “الفلسفة”.
وهي كلمة مشتقَّة في أصلها اليونانيِّ من “محبَّة الحكمة”، أي الحكمة الشَّرقيَّة التي صار التَّفكير العقليُّ المستنبط من الفلسفة يُطالب بإخراجها من حومة البحث.
ومنذ أرسطو صار التَّفكير العقليُّ يمارس أقصى أنواع المركزيَّة، إذ صنَّفَ أرسطو المعارف تصنيفاً تراتبيّاً وضع فيه المنطق، أي أبنية المفاهيم العقليَّة المجرَّدة، في أعلى الهرم، ووضع الصِّياغات اللُّغويَّة الجماليَّة والجدليَّة في الحضيض والأسفل. 
وأقنع المفكِّرين على امتداد قرون طويلة بأنَّ الأدب هو معرفة خياليَّة منحرفة، وأنَّ المعرفة العقليَّة القائمة على المنطق هي وحدها الصَّحيحة.
وبدءاً من العصور الحديثة صارت أفكار أرسطو تتعرَّض للزَّعزعة.
في البداية جاء المفكِّر الإيطاليُّ فيكو وادَّعى أنَّ البلاغة، وليس التَّفكير العقليَّ، هي الأساس الذي تنهض عليه الحضارة.
وما برحت مركزيَّة المنطق والعقل تتناوشُها الخلخلات على أيدي بعض المفكِّرين من طراز أساتذة الشَّكِّ الكبار، أي ماركس ونيتشه وفرويد، حتّى تمكَّن نورثروب فراي من صياغتها في نظريَّة سمّاها بـ”أطوار اللُّغة الثَّلاثة”.
وأعتقد أنَّ مشروعي في اعتبار الأدب عَمَداً من أعمدة نظريَّة المعرفة يسير في هذا الاتِّجاه.
فأنا أرى أنَّ الحضارة الإنسانيَّة مدينةٌ إلى الأدب في وعيها لذاتها أكثر بكثير من دينها للتَّفكير العقليِّ والمنطقيِّ. 
وهنا لا بدَّ أن نعرف أنَّ الأدب لا يتمثَّلُ في الصِّياغات الشَّكليَّة وحدها، بل هو في الأساس المنظومة البلاغيَّة التي تتبطَّنُ اللُّغة. 
فنحن، شئنا أو أبينا، نمارس فعاليَّة التَّفكير من خلال اللُّغة، أي من خلال أبنية بلاغيَّة تقدِّمُها لنا اللُّغة.
وسواء أكان موضوع التَّفكير هو الأدب أو العقل أو العلم، فنحن نشغِّل هذه الأبنية في عمليَّة التَّفكير. 
وعند فحص هذه الأبنية سنجد أنَّها مجموعة من “الاستعارات الكبرى”. 
وأعمل الآن على كتاب سمَّيتُهُ “مجمع اللُّقى البلاغيَّة: الاستعارات الكبرى في الفلسفة والأدب” على تصنيف هذه الاستعارات والكشف عنها في مختلف النُّصوص الملحميَّة والفلسفيَّة والفكريَّة القديمة، بل حتّى العلميَّة الحديثة، لإيضاح أنَّ الأدب يشكِّل فعلاً عمداً من أعمدة الوعي بالذات، ومن ثم من أعمدة نظريَّة المعرفة.
* القراءة بكلِّ الحواسِّ هي من حفريّات الغانميِّ، ما خلفيَّة هذا المفهوم؟
- في مطلع التِّسعينات، عندما كنتُ أكتب الفصل الخاص بالرُّصافيِّ من كتابي “مئة عام من الفكر النَّقديِّ”، لاحظت أنَّه كان يريد تناول موضوعاته من مختلف الأوجه الفكريَّة التي تتيحُها له نظريَّة الالتزام الإحيائيِّ كما سمَّيتُها.
وقد أطلقتُ على ذلك اسم “القراءة بكلِّ الحواسِّ”، وكنت أعني بذلك القراءة بكلِّ العلوم الممكنة.
بعد ذلك تطوَّر هذا المصطلح على نحوٍ غير إراديٍّ.
في مقدَّمة كتاب “فاعليَّة الخيال الأدبيِّ” لاحظتُ أنَّ البحث في الأصول البلاغيَّة للأفكار يقتضي منّا ألّا نتبنَّى أيَّ منهجٍ لعلمٍ بذاته. فهذا البحث لا ينتمي للفلسفة، ولا للتاريخ، ولا لعلم الآثار، ولا للتَّحليل اللُّغويِّ، بل هو حقل جديد يمشي في ما بين الحقول، وعلم جديد يقع على المشارف والتُّخوم بين العلوم المختلفة. ولهذا فهو يحتاج إلى التَّزوُّد بعدَّةٍ تنتمي إلى هذه العلوم جميعاً، مع الاحتياط لعدم الوقوع في مركزيَّة أيِّ علمٍ منها. كانت إبستمولوجيا البلاغة، أو بلاغيَّة المعرفة، كما سمَّيتُها، تتطلَّب منّي أن أسوق بحثي على تخوم جميع المعارف. ولا أُخفيك بأنَّني كنتُ أتصوَّر أنَّني استحدثتُ هذه الفكرة الجديدة. ولكنِّي مؤخَّراً اطَّلعتُ على ترجمة إنكليزيَّة لكتاب في علم الجمال من تأليف ميخائيل باختين عنوانه “الفنُّ والتَّجاوب”. وقد ذهلتُ لاقتراحه أنَّ العلوم الإنسانيَّة تخلو من المناطق المركزيَّة، بل هي دائماً علومٌ توجد في المناطق الحدوديَّة وعلى محيط الاشتغالات المختلفة. وكان من الواضح أنَّ باختين سبقني إلى هذه الفكرة. وربَّما كنتُ استقيتُها لاشعوريّاً من أعماله الأخرى، وصغتها صياغة مشابهة لصياغته تقريباً.
*  اشتغلتَ على التَّحليل البلاغيِّ لفحص ظواهر مهمَّة في الفكر واللُّغة والأدب، كيف تفهم مركزيَّة العقل الغربي في تعامله مع النصوص التي أنتجتها الثقافة اليونانية؟
- أنت تصف هذا العقل بأنَّه يمتاز بالمركزيَّة، بمعنى أنَّه يعتبر نفسه معياراً لما يمكن أن يصل إليه الفكر؛ والثَّقافة التي لا تتماثل معه ثقافة دونيَّة قد يصفُها بـأنَّها “بدائيَّة” أو “سابقة على المنطق” أو حتّى وحشيَّة ومتخلِّفة. وفي المقابل فإنَّه عقل يضخِّمُ إنجازاتِهِ إلى درجة غير معقولة، بحيث تصير المقياس للعقل البشريِّ في جميع الأزمنة، والويل للعقل الذي لا يتطابق معها. وفي القرن التاسع عشر بالتَّحديد بلغ العقل الغربيُّ، واستعمل الكلمة وصفيّاً وحسب، درجة هائلة من المركزيَّة، وصار يُعيد النَّظر في التاريخ اليونانيِّ، بحيث اعتبر الفلسفة اليونانيَّة تمهيداً لظهوره هو نفسه. وهكذا أكبَّ على هذه الفلسفة بالدِّراسة والتَّحليل ليجعلها المظهر الإطلاقيَّ الأوَّل لمركزيَّة العقل. ولو أخذنا هيغل وحده كمثال على المركزيَّة العقليَّة لرأينا كيف نظر إلى نابليون باعتباره “وعيَ العالم على جواد”، في حين أنَّه كان يرى في الشَّرق من الدَّولة العثمانيَّة حتّى الصِّين مجرَّد شعوب لا تاريخ لها، بل هي تعيد إنتاج نفسها في زمنٍ تكراريٍّ خارج الزَّمن. وقطعاً فقد تُغرينا بعض المظاهر العقليَّة في هذه المركزيَّة، لكنَّها تنكشف عند التَّحليل عن وجهها العنصريِّ المتركِّز حول الذات.
لكنَّ هذا لا يعني أنَّنا ننكر على الغرب ما أحرزه من إنجازات، لا سيَّما إذا تذكَّرنا أنَّه هو الذي اكتشف الكتابات المسماريَّة والهيروغليفيَّة والكنعانيَّة والفينيقيَّة.. إلخ. لكنَّنا هنا يجب أن نحترس من شيئين؛ الأوَّل هو المركزيَّة التي ينظر بها المستشرق إلى تاريخنا، ومن ثم فهو يُسقِطُ مشكلاته ورؤاه الغربيَّة على تاريخ الشَّرق، سواء أكان ذلك شعوريّاً أم عفو الخاطر. ومن ناحية ثانية، فليس جميع الدارسين الغربيين على درجة واحدة من السُّموِّ الفكريِّ، بل إنَّ بعضهم يمتاز بالكسل، وقد يقيس ما لا يعرفُهُ عن الفكر الشَّرقيِّ بنظائره ممّا يعرفُهُ لدى الفكر الغربيِّ. ومن هنا يتحوَّل الغرب نفسه إلى أنموذج للحكم على الشَّرق. وحينئذٍ يحصل ما حذَّر منه إدوارد سعيد من كون الاستشراق يتحوَّل إلى خطابٍ غربيٍّ لابتكار الشَّرق، وليس لدراسته كما هو في ذاته.
* لماذا أنتجت المدرسة عند السوفسطائيين اليونانيين الدرس الفلسفيَّ، في حين غاب هذا الدرس عن المدرسة السُّومريَّة؟
- قارنتُ في “فاعليَّة الخيال الأدبيِّ” بين المدرستين، وقلتُ إنَّ المدرسة السُّومريَّة سبقت المدرسة اليونانيَّة بأكثر من ألفي سنة، مع ذلك فإنَّها لم تزدهرْ ازدهار المدرسة اليونانيَّة. وهناك ثلاثة أسباب حالت من دون ازدهارها؛ الأوَّل أنَّ المدرسة السُّومريَّة كانت تقوم على علاقة القرابة، فالمدرسة هي بيت الألواح، ومثل كلِّ بيتٍ يقوم على علاقة القرابة، يُدعى الناظر أباً، والتَّلاميذ أبناءً.
وبالرَّغم من عدم وجود أدلَّة قاطعة، فمن المرجَّح أنَّ تقاليد الانتقال من مدرسةٍ إلى أخرى للمعلِّم أو الطالب غير موجودة، لأنَّ المدرسة ترتبط بالمعبد، وبالقرابة العائليَّة لأهل المدينة. 
في حين كانت القوانين اليونانيَّة تسمح لأيِّ مدرِّس بأن يفتح مدرسة في أيَّة مدينةٍ أخرى يشاء. 
ومن ثم فانتقال التَّجارب المدرسيَّة من مكان إلى آخر أمرٌ ممكن. من ناحية أخرى، فقد وُجِدَتِ المدرسة السُّومريَّة قبل استعمال النُّقود بما يقارب ألفي سنة. وكانت الهدايا التي يتلقّاها المعلِّمون مقابل خدماتهم هدايا عينيَّة، مثل الفواكه والتُّمور والبيض والدَّجاج وما أشبه. 
وهذه مواد عينيَّة قابلة للتَّلف، ولا تقبل المراكمة. في حين كان المعلِّم اليونانيُّ يتقاضى أجوره بالنُّقود، التي تقبل المراكمة وتقبل الانتقال معه عند إغلاق المدرسة. 
وآخرُ أمرٍ مهمٍّ هو أنَّ المدرسة السُّومريَّة كانت تستعمل نظام الكتابة المقطعيَّة بما يزيد على سبعمئة رمزٍ مقطعيٍّ، فضلا عن عدد كبير من العلامات التَّصنيفيَّة. 
وهذه أشياء تستدعي من الطالب وقتاً أطول بكثير لمعرفتها واستذكارها. في حين استعمل اليونانيون نظام الكتابة الألفبائيِّ، الذي أخذوه من الكنعانيين، وهو نظام يحتوي على ما يقارب ثلاثين حرفاً يسهل على التِّلميذ حفظها، ليتفرَّغَ لاحقاً لاستيعاب تفاصيل العلوم الأخرى. ومن الناحية التاريخيَّة، تدين جميع المدارس في وجودها إلى المدرسة السُّومريَّة بحكم سبقها الزَّمنيِّ. ومن شبه المؤكَّد أنَّها خلقت تقاليد دراسيَّة انتقلت وظلَّت تنتقل إلى الحضارات الأخرى، التي بقيت تعدِّلُها وتكيِّفُها بما يتناسب مع بيئتها. ومهما بعدت المسافة بين المدارس والمدرسة السُّومريَّة الأولى فإنَّ السَّبق الزَّمنيَّ يظلُّ يعطي لها القيمة الرَّمزيَّة على غيرها.
*  هل تعتقد أنَّ سقراط مارس التَّضليل اللغوي حين تظاهر بالجهل السقراطي؟
- بالعكس، أنا معجب بسقراط، وأعتبره واحداً من أهمِّ الشَّخصيّات التَّأسيسيَّة في التاريخ الإنسانيِّ. وفي الحقيقة فقد بنى عبقريَّتَهُ من أشياء بسيطة للغاية. أهمُّ ما أسهم به سقراط هو اكتشافُهُ “النَّفسَ” الإنسانيَّة، التي كانت قبله تُعامَلُ باعتبارها نَفَساً وهبَّةَ ريحٍ. سقراط قال إنَّ النَّفس هي جوهر الحياة الأخلاقيَّة، وبها وحدها يتميَّز الإنسان بالفضيلة أو الرَّذيلة. وفضلا عن ذلك كان سقراط يريد أن يعيد تعريف الأشياء ليسيطرَ عليها؛ كان يريد أن يتلمَّسَ حدودها ليعرف وظائفها ومعانيها. لكنَّه كان يعرف أنَّ المفردات خادعة، وأنَّها تُستخدَم استخداماً بلاغيّاً، وهو ما يحذر منه ويخافُهُ. حين تنبَّأَ له وحيُ دلفي بأنَّه “أحكم الناس” وأفضلهم، تردَّدَ في قبول هذا الحكم، وحاول أن يجد من هو أفضل منه، ليتجنَّبَ المصير المأساويَّ الذي يتربَّصُ به. 
فهو يعرف أنَّ هذا الحكم، وإن كان في ظاهرِهِ ينطوي على تمجيدٍ، لكنَّه سينتهي فعلاً بمأساة. 
حاول سقراط أن يعرِّفَ الكلماتِ، ويستخرج دلالاتها حتّى لا يقعَ في فخاخ البلاغة. ولذلك فقد شعر بالخوف عندما شبَّهَهُ أحد محاوريه بأنَّه مثل “السَّمكة الرَّعّادة”. 
والسَّمكة الرَّعّادة حيوان بلاغيٌّ، يصيد من يريد أن يصيدَهُ. فاعترف سقراط أنَّه إذا كان يتميَّز بشيء فذلك هو اعترافه بأنَّه لا يعرف شيئاً، حين يدَّعي الآخرون معرفة كلِّ شيءٍ. 
وبتجاهلِهِ هذا، ببدايتِهِ من الصِّفر، لا من المعرفة المتراكمة السابقة، كان سقراط يريد مساعدة محاوريه على استكشاف الحقيقة بأنفسِهم، وأن يوضِّحَ لهم حيل البلاغة التي تنطوي عليها الأسئلة والأجوبة معاً. فكان تجاهل سقراط أداةً لتوليد المعرفة، ولذلك شبَّهَهُ أفلاطون بأمِّهِ التي كانت قابلةً، فهو يولِّد الأفكار لدى مستمعيه، مثلما تولِّد أمُّهُ النِّساء وتجعلهنَّ يضعنَ ما في بطونهنَّ. 
لكنَّ الحكم على سقراط شيء، والحكم على المركزيَّة الغربيَّة التي تسوِّق لنا صورة خاصة عنه شيء آخر. تريد المركزيَّة الغربيَّة أن يكون سقراط آلةً في منظومتها الكبرى التي تجعلها الأنموذج الوحيد الممكن لكلِّ فكرٍ. وهذا شيء يتناقض مع مشروع سقراط الحقيقيِّ. وفي قراءتي له في “فاعليَّة الخيال الأدبيِّ”، قدَّمت قراءة أدبيَّة جديدة له بمعزلٍ عن القراءة الغربيَّة المتركِّزة حول الذات، التي تجعلُهُ بشيراً بالفكر الغربيِّ، وأنموذجاً سابقاً لعقله المتفوِّق.
*  هل انعكس هذا الحراك الفكريُّ في الثَّقافة العربيَّة؟ وهل نجد له أثراً في الأعمال الأدبيَّة والفكريَّة التي أنتجها العرب؟
- في مشروعي الشَّخصيِّ، أنظر إلى البلاغة نظرة مختلفة. وأعتقد أنَّ علينا استخراج البنى الكبرى للتَّفكير الإنسانيِّ التي توجد في جميع الأنماط المعرفيَّة التي طوَّرتها البشريَّة. وهذا ما أسمِّيه بـ “بلاغيَّة المعرفة”. وهذه البنى المعرفيَّة هي الاستعارات الكبرى، التي أعمل على تصنيفها في كتابٍ لم يكتملْ بعد، وهي توجد في الأسطورة والفلسفة والعلم على السَّواء. في الثَّقافة الغربيَّة، هناك مؤسَّسات تعمل، ولذلك فالظَّواهر الثَّقافيَّة ذات تأثير اجتماعيٍّ طويل المدى. أمّا في الثَّقافة العربيَّة فالأفراد يعملون وحدهم، ولا سيَّما في صفوف الحركات التَّجديديَّة، في حين أنَّ المؤسَّسات الراسخة هي المؤسَّسات التَّقليديَّة، التي تقف إلى جانب الأسطورة والفكر التَّقليديِّ بأكثر صوره جموداً وتخلُّفاً.
مع ذلك، يمكن للمرء أن يجد أمثلهة على هذا الصِّراع بين النَّماذج الثَّقافيَّة في بعض الأعمال الفكريَّة والأدبيَّة. 
نستطيع أن نجد أمثلةً على الاشتغال العلميِّ في أعمال د. زكي نجيب محمود المبكِّرة، ولا سيَّما في كتابه الجريء “خرافة الميتافيزيقا”، الذي اضطرَّ إلى تغيير عنوانه لاحقاً، مثلما نجده في أعمال د.علي الورديِّ الأولى ونقده للعقل الأسطوريِّ والمنطق الأرسطيِّ. 
ولعلَّ عنوانه الأشهر “مهزلة العقل البشريِّ” ذو دلالة كبيرة في هذا الاتِّجاه.
على الصَّعيد الأدبيِّ أيضاً، كان وعي نجيب محفوظ مثاليّاً من هذه الناحية. 
وقد توصَّل في عمله الرِّوائيِّ الجبّار “أولاد حارتنا” إلى ما يشبه هذا التَّقسيم، حين جعل الأجيال التي عاشت في الرِّواية تنقسم إلى ثلاثة أجيال؛ جيل الدِّين، وجيل العقل، وجيل العلم. 
وكلُّ جيلٍ من هذه الأجيال تمثِّلُهُ شخصيَّة قياديَّة تظهر في الحارة. ولكن علينا أن نضع في اعتبارنا أنَّ هذه الأعمال، وغيرها مما لم أذكره، تظلُّ أعمالاً فرديَّة لا ترقى أبداً إلى مستوى التَّأسيس الاجتماعيِّ. 
وقد حصد الداعون لها من التُّهم ما لا يُحصى، بحيث اضطرَّ بعضهم إلى التَّراجع عن أفكارهم. وكما أوضحتُ في كتابي “مئة عام من الفكر النَّقديِّ”، فإنَّ السُّلطات المؤثِّرة اجتماعيّاً في المجتمعات العربيَّة هي سلطة شيخ العشيرة، ورجل الدِّين، والقائد العسكريِّ. 
أمّا المثقَّف فيقتصر دوره على شرح إحدى هذه السُّلطات من دون أن يحلم بالارتفاع إلى مستوى تكوين سلطة اجتماعيَّة ذات تأثيرٍ 
فعليٍّ.