بعد أنْ وطأت الحروبُ حياته وأحلامه شرفة على تطرّفِ المثقف العراقي

ثقافة 2022/04/17
...

 استطلاع: صلاح حسن السيلاوي 
 
لم يعد الحديث عن التطرف في اتخاذ المواقف وطرح الأفكار والانتماء إليها في المشهد الثقافي حديثاً غريباً عن الواقع، بل صار من الواضح دفاع عددٍ غير قليلٍ من الأدباء عن انتماءاتهم الدينيَّة والمذهبيَّة واتهام الآخر المختلف عنهم بعدم أحقيَّة ما ينتمي إليه.
على الرغم من اتكاء المشهد الإبداعي على جدران قويَّة وعالية من وعيه وتراثه المتراكم في فضاء الثقافة العراقيَّة وذواتها، إلا أنَّ التطرف بمستويات متباينة بين صفوف مثقفيه أصبح ظاهرة يمكن للمتابع أنْ يضع شجرها الغريب على موازين بصيرته ليتفحص مديات جذورها وأغصانها وما تحصل عليه من شمس وماء. من هنا تساءلتُ بحضرة نخبة من مثقفينا: ما رأيك بتطرف المثقف العراقي؟ ألا ترى معي أنَّ عدداً من المثقفين يتعامل بخشونة مع المختلف عنه؟ كيف ترى واقع الصراع والجدل حول أحقيَّة وأسبقيَّة الأشكال الشعريَّة والسرديَّة؟ بِمَ تعلق على من يقول إنَّ تطرفاً ثقافياً يتحرك بشكلٍ خفي وظاهرٍ في مشهدنا الثقافي، وإنَّ كثيراً من المثقفين ينتمون إلى مذاهب وأديانٍ وأعراقٍ وقومياتٍ ويتعصبون لها بعيداً عن متبنيات الثقافة الحقة؟
 
ظاهرة واضحة
القاص علي حسين عبيد يرى التطرف الثقافي ظاهرة ليست عراقيَّة فحسب، وإنما عربيَّة وعالميَّة، مشيراً إلى أنَّ الثقافات لم تسلم على امتداد الأرض من التطرف، أما في العراق فالتطرف الثقافي بات يشكل ظاهرة واضحة، على حد قوله ولكنها بحسب متابعته للحراك الثقافي، أقل وطأة مما مضى.
وأضاف عبيد موضحاً: لو عدنا مثلاً إلى عشر سنوات مضت وأكثر، كان التطرف الثقافي في أوجه، ولا تزال له بقايا تحمل من الخطر الكثير، لأنَّ المعوَّل على الثقافة أنها تتصدى للتطرف ولا تقبل بالانحناء تحت ظله، كما أنَّ المثقفين العراقيين بعضهم مصابٌ بهذا المرض الذي لا يليق بمثقف ولا يُصيب إلا المثقف المستعد لاستقبال التطرف والتعامل معه بسبب قصوره وجهله وقلّة وعيه، فلا يمكن أنْ يتم تبرير التطرف الثقافي مطلقاً، ومن الجدير أنْ نقرّ بأنَّ كل أنواع 
وأشكال التطرف لا تشرّف الإنسان فرداً كان أو جماعة.
أما في ما يتعلق بالتطرف الأدبي (تجنيس النص)، فهو أيضاً ساحة مفتوحة للصراع بين بعض الشعراء وبعض كتاب السرد، وهي أيضاً ظاهرة عربيَّة عالميَّة، وأظن أنَّ هناك جانباً إيجابياً لهذا النوع من الصراع وليس (التطرف) إذا بقي في إطار (المنافسة) والأفضليَّة القائمة على مقاييس معتدلة لا تغبن الشعر ولا السرد، هذه الظاهرة موجودة لذا من الأفضل التنبّه لها، ومهمَّة الأدباء (شعراء وكتاب سرد) هي وضع القواعد والمعايير للمنافسة المشروعة بعيداً عن المصادرة والتطرف والتسقيط، كما أنَّ المواهب والعبقريات تتدخل في هذا النوع من الصراع، فهناك شاعرٌ فذٌ يكتب قصيدة لا تتفوق عليها نصوص السرد مطلقاً ويصحُّ العكس.
وقال أيضاً: أما القول بوجود تطرف خفي وظاهر، فهو واقع حال في الأوساط الثقافيَّة، نتيجة للبيئة أو الحاضنة المتعددة في مكوناتها وهوياتها، ومع زعزعة الهويَّة الأم (الوطن/ العراق) وتنامي الهويات الفرعيَّة باضطراد، لا بُدَّ لهذا النوع من التطرف أنْ يتحرك عبر طريقين، الأول منظَّمٌ ومخطَّطٌ له، والآخر عشوائي تقوده (ثقافة القطيع)، ثقافة (الشِلليَّة) التي يجمع أفرادها قانون (شيّلني وأشيلك)، بمعنى ساندني وأسندك، وأخيراً لا بُدَّ من الاعتراف أنَّ هناك أمراضاً ومثالبَ في الوسط الثقافي وفي ثقافتنا أيضاً، ولا يجب دس الرؤوس في الرمال لكي نتخلص من صداعها المحسوس، يجب تأشير الظواهر السلبيَّة وإعلانها بصوتٍ عالٍ والشروع بوضع الحلول بنوايا صادقة للحد أو التقليل من غلوائها.
 
انكفاء وتفخيخ ذاتي
الشاعر والناقد حامد عبدالحسين حميدي أشار إلى بروز بعض الحالات السلبيَّة في المشهد الأدبيّ والثقافيّ التي لا بُدّ للمثقف أو الأديب أنْ يكون بعيداً عنها، منها التطرف الثقافيّ والاختلاف السلبيّ في وجهات النظر وخلق جدليَّة الصراع والتنافس غير المبرر، البعيد كلّ البعد عن الرؤية التي يجب الوصول إليها من أجل خلق ثقافة عراقيَّة أو عربيَّة رصينة مع طموحات في الوصول للثقافة العالميَّة.
ولفت حميدي إلى أنَّ مثل هذه الأزمات الثقافيَّة المتوالِدة مع التدهورات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وميول بعضهم الى الانتماءات الحزبيَّة والعقائديَّة التي أثرت وبشكلٍ فاعلٍ في جملة من المفهومات التي يحملها المثقف، بحيث عملت على الانكفاء الذاتيّ وتغيير بل وتحجيم ما يحمله من فكرٍ ثقافيّ، أدى إلى عدم وجود رؤية ثقافيَّة ناضجة تحمل السّمات التي من خلالها يجب أنْ يصانَ ما بقي لدينا من وعي ثقافيّ وأدبيّ ناضج.
وأضاف مبيناً: يجب علينا أنْ نحدّد المعايير الثقافيَّة السامية التي من خلالها ننطلق نحو تحرير الفكر والوعي الثقافيّ من الأنا المتضخمة وأنْ نحصنه من إشكاليات التحزّب والتطرف اللذين ربما يؤديان دور التفخيخ والتدمير الذاتيّ لكلّ القيم والمبادي الثقافيَّة، فالمبنى الثقافيّ تكوينٌ وهرمٌ عالٍ لشريحة تلعب دوراً مهماً في متبنيات المجتمع وبناء الأمم ورفد حضاراتها وبما ينسجم مع متطلبات التأريخ.
والمثقف وإنْ تعدّدت لديه المرجعيات المذهبيَّة والدينيَّة والطائفيَّة والعرقيَّة، فلا يمكن أنْ ينحسرَ في زاويتها الضيقة، ربّما ظهرت لدينا حالات خاصّة لدى البعض لكنَّ هذا لا يمكن تعميمه على الكلّ، فالثقافة كليَّة في مفهومها العام وليست خاصة، وهي مستخلصٌ لنتاجات أدباء ومثقفين كانوا وما زالوا يحملون سمة الإبداع الجمعيّ وليس الفرديّ، لذا نقولُ إنَّ الابتعاد عن مثل هذه الإشكاليات هي حاجة ملحَّة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بغية ألا نقع فريسة سهلة في شرك التناحر لبعض المرجعيات التي يلتزم بها الآخر، علينا أنْ نحدّد مسارات الثقافة وصياغتها الحقيقيَّة وعلى رؤى لا يمكن التخلي عنها إلا بتحركٍ ثقافي واعٍ.
 
خونة تحت النقد
الشاعر يوسف حسين الهيازعي ذهب برأيه إلى أن المثقف العربي بقراءته الفسيفسائيَّة في مجتمعٍ متعدد الديانات لا يمكن أن ينزل بوعيه إلى مستوى الطائفيَّة التي حاولت تشتيت البلاد وفشلت فشلاً ذريعاً.
مشيراً إلى أنَّ الخشونة التي يتعامل بها بعض المثقفين مع المختلفين عنهم في الأجناس والأشكال الأدبيَّة تنظوي تحت النقد عموماً والاختلاف في الاسلوبيَّة والأنساق. أما الجدل حول أحقيَّة وأسبقيَّة الأشكال الشعريَّة والسرديَّة فلا يرتقي إلى مسمى الصراع بقدر ما يمثل حالة من حالات عدم الرضا والاحتجاح على السائد وعمليَّة التغيير والمكاشفة بعيداً عن الكلاسيكيات، تلك العمليَّة التي تدفع الأدب إلى الرقي والرفعة والسمو الإنساني باعتبار أنَّ الأدب له أنْ يكون عرضة للنقد وعليه أنْ يتقبل ذلك النقد نحو المغايرة واجتراح ضفاف جديدة تتسع لمراكب الطروحات والسير فيها لبلوغ الأهداف على وفق معطيات إبداعيَّة وجماليَّة قادمة من الذات القريبة للواقع والمتجذرة في الوعي.
وأضاف الهيازعي بقوله: قد أتفق مع من يقول إنَّ تطرفاً ثقافياً يتحرك بشكلٍ خفيٍ وظاهرٍ في مشهدنا الثقافي، لكنَّ ذلك برأيي غير معلنٍ والخفاء لا يمكن القياس على متبنياته لأنها غير واضحة المعالم ومبهمة فهي ليست في متناول التعليق والنقد فكلاهما أي التعليق والنقد يستند إلى مادة معلنة واضحة مع أسماء معروفة.