برج بابل

ثقافة 2022/04/17
...

    محمد خضير
 
أُطلِق اسم البرج على فندق كبير بوسط المدينة، بُني على طراز الزقّورة الشهيرة في أور. وفيما يرتفع برج الفندق عشر طبقات متدرّجة في الفضاء، كان قبوه الغائر في الأرض مخصَّصاً لحفظ سجّلات النزلاء؛ وأغلبهم وفَدَ على المدينة لأغراض مبهمة. ولقد أوكِلت وظيفة الإشراف على سجّلات القبو إلى ذي النون أيوب، وهو كاتب من طبقة "كُتّاب العرائض" التي انقرضت مع لجوء الفندق إلى وسائل حديثة في المراسلات وتدوين البيانات. لا أستطيع تحديد تاريخ بناء البرج، لكنّ حوادث قصّتنا قد تُزامِنُ الشهورَ الأولى من العام 2003. كما لا يُعرَف تاريخ سكن نزلاء الفندق، بل كان وفودهم عليه مستمراً.
 "مَن يملك سرّاً يحكم العالم". هذه العبارة المحفورة على لوح زنك، رُفِعَت على جانب مدخل قبو الفندق. وقد تدلّ العبارة الاستخباراتية على نوع الأسرار التي يحرص مالك الفندق على حفظها تحت رعاية يدٍ أمينة. والحقيقة أنّها مجموعة أيدٍ، وإنْ كانت يد ذي النون هي العليا. هنا احتبسَ المالكُ - ويُرمَز له بالسيّد باروق - أكثر من مئة خازن، يعملون على أرشفة المعلومات عن نزلاء الفندق في حاسبات إلكترونية.
 نادراً ما يهبط المالك باروق إلى القبو، وحين رجّت قدماه الأرض السفلى مصحوباً بمرافقيه، بعد شهور من عمل المؤرشِفين الدؤوب، كان الربيع خلالها قد استفرغ إنذاراته المفاجئة على السطح، واستتبّ الحكم، واستُكمِلت البيانات، وألقَت بغداد بآخر سرّ في حوزتها. انطوت صفحات وفُتِحت صفحات، وحان وقت تصحُّف ملفّ شخصيةٍ خطيرة من شخصيات الفندق؛ لهذا لجأ السيد باروق إلى محفوظات ذي النون أيوب، الخازن الإلكتروني، لإزاحة الغبار عنها، وإزالة آخر العوائق أمام تلك الشخصية المهيأة لتسنُّم موقعٍ رفيع في الدولة.
  بعد تبادل كلمات المجاملة بين مسؤولينِ متنافرَي الطباع، قال ذو النّون أيوب: "شرّفتْني زيارتُك سيد باروق. جهّزنا المعلومات عن مرشّحك الملقّب بالأشهب. ملفّه أمام عينيك صفحة صفحة. وإذا أردتَ مشورتي فالمعلومات عنه متشابهة مع صفات ألف شخصية وفَدَت على فندقنا. لا توجد علامة فارقة. جودة من نوع خارق للعادة، أو رداءة من النوع المفرط في السوء".
  ردَّ باروق: "أنت كاتب عرائض مخضرم سيد نون. لكن أتعرف شيئاً؟ الوسطية والشهرة الخاملة هما ما نطلبه اليوم في عالم السياسة. هل كنتَ تبحث في ملّف مرشحنا عمّا يميّزه شخصاً أحاديّ الجنس أو مريضاً بحالة النوم القهري أو شخصاً متمذهباً بالمانويَّة؟ ليس هذا مهمّاً على الإطلاق في اختياره للمنصب. أيُّ علامة ثانوية كامنة في الظلّ مفيدة جداً في هذا الخصوص. ألديكَ ما تخفيه عنا سيد نون من هذه العلامات؟".
  وضّحَ ذو النون: "قد لا أفهمك سيّد باروق، لكنّي أؤكد لك خلوّ ملفّ السيد الأشهب من أيّة شائبة. ليست فيه ما في شخصيّات الأمس من جموح الأخيلة. إنّه خامد كموقد مقهى في نهاية الليل. لقد أُفرِغ ملفّه تماماً من أيّ ماضٍ مشبوه إذا استعملنا لغة مهنتنا القديمة. لا يصلح الرجل لإشغال موقع خطير، وقد يصلح أيضاً ليوضَع في أيّ وظيفة اعتيادية. هذه هي شخصيّات فندقنا عموماً سيد باروق. هم جميعاً في الحالة الوسطى من كلّ شيء".
 نهض باروق مبتهجاً، وقال: "نعم كما تقول. هذا هو رجلنا المرغوب. لا صورة واضحة نكوّنها عنه. كما أنّك نفسك لا تستطيع تأليف نصّ شيّق عن شخصيات فندقنا الغامضة أو المتشابهة كما تصوّرتَ. صرتَ كاتبَ عرائض خاملاً مثل مرشّحنا الأشهب. بابل ليست ببابل. استمرّ بعملك عزيزي نون".   
(من: كتاب العقود)