الأمن الغذائي بين التشريع والشريح

آراء 2022/04/17
...

 صالح الهماشي
 
لم تزل الحكومة العراقية على نهجها القديم في مواجهة الأزمات والذي يمكن أن يلخص بانتظار وقوع الأزمة والصراخ بأعلى صوتها “على المواطن أن يتحمّل المسؤولية اتجاه واجبه  الوطني وتحمّل المزيد والمزيد حتى يحكم الله والله خير الحاكمين. فبرغم كل التحذيرات التي نادى بها كل العالم من أزمة غذاء مقبلة لا ريب فيها، فخططت مسبقاً لتجاوزها كل الدول، وخصصت أغلب مواردها المادية والبشرية لإيجاد الحلول المناسبة، حتى أعلنت الحرب الأوكرانية الروسية بدء هذه الأزمة، ولعل هذه الحرب لم تكن مفاجأة بقدر المفاجأة بفرح البعض بالتداعيات الاقتصادية لهذه الحرب ومنها ارتفاع أسعار النفط عالمياً، غاضة الطرف عن ارتفاع المواد الغذائية وباقي المواد الى نسبة قد تتجاوز 120 % لتبدأ الحكومة العراقية عند هذه النقطة المتأخرة أصلاً بتشريع قانون الأمن الغذائي الذي هو عبارة عن تخصيص مبلغ قدره  1,5 مليار دولار لتغطية مفردات البطاقة التموينية، وصرف مستحقات الفلاحين المتأخرة منذ عام 2014 كأنَّها بذلك قد عرَّفت الماءَ بالماءِ، فإنَّ 35 % من هذا المبلغ يدفع لاستحقاق هو أصلا في ذمة الحكومة لمواد متسلّمة مسبقاً وتم استهلاكها منذ سنوات، ليبقى 70 % الذي يعادل (900 مليون دولار) لاستيراد مفردات البطاقة التموينية، وهو أقل من المبلغ الذي اعتمد في قانون موازنة 2021 والذي كان (1,5 ترليون)  في العام الماضي، فضلا عن أن الحكومة لم تضع في اعتبارها ارتفاع الأسعار، فكان المفروض أن ترفع المبلغ الى (3 تريليونات) ليواكب الزيادة في الأسعار العالمية.  وقد يخطئ القارئ إذا أعتقد أن هذا هو المعوّق الأكبر، فالتحدي الحقيقي بالنسبة للحكومة هو في قدرتها على التعاقد مع المنتجين العالميين لتوفير الاحتياجات في ظل الطلب العالمي المرتفع، في مقابل تراجع الإنتاج بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية وتسابق الدول الاوروبية في البحث عن منتجين جدد بدلاً عن المنتج الأوكراني الذي أصبح في ظل هذه الظروف غير متاح، مثل استراليا أو كندا أو الأرجنتين أو غيرها من الدول القادرة على سد تمويل البلاد باحتياجاتها من الإنتاج الزراعي، ولعل ما يخفى على الكثير أن في مثل هذه المواقف الحرجة والأزمات العالمية فإنّ هذه الدول وغيرها ستعطي الأولوية لتلبية احتياجات القارة الأوروبية على حساب آسيا وأفريقيا وبقية الدول النامية، وحتى في حال توفر الأموال فسنكون في آخر  الطابور، والله أعلم كم سيطول هذا الطابور، ولا أستبعد ألّا نرجع بعد كل هذا بغير خفي 
حنين.  
إنَّ على الحكومة إعادة بناء الثقة مع المزارعين المحليين والاعتماد على إنتاجنا المحلي لزيادة الإنتاج والوقوف على المعوقات التي تحول من دون هذه الزيادة، ولعل أهمها الفساد الذي طال وزارة التجارة كحال باقي مؤسسات الدولة، والتي أصبح الفساد هو السمة الأبرز فيها، وكذلك  الضغط الجدي والحقيقي بعيداً عن الجعجعة الإعلاميَّة على الجانب التركي والإيراني لضمان الحصص المائية العراقية، والعمل الفعلي لزيادة المساحات الزراعية، أو حتى التعاقد مع شركات عالمية أو عقد اتفاقيات مع الدول لضمان التعاون في استصلاح مزيد من الأراضي الزراعية، خاصة أن العراق يمتلك قرابة (40 مليون) دونم صالح للزراعة، ولكن المزروع فعلاً لا يتجاوز 6 ملايين بسبب شح المياه، وغياب الدعم الحكومي، وفتح باب الاستيراد بشكل عشوائي وغير منظم، فضلا عن الزحف السكاني على الأراضي
 الزراعية. إنَّ الحل ليس بالأمر المستحيل ولعل القارئ يتفاجأ إذا أخبرته أنه أمر سهل يسير، لكن المشكلة الحقيقية في زمن الأزمة العالمية الذي سيخلق لا محال فوضى تترك أثرها وتعقّد من هذه الحلول، خاصة وأن أسعار النفط ليست طبيعية او ثابتة، ومن الممكن أن تتهاوى في أي لحظة، خاصة وأن الدول المنتجة تدرس حاليا زيادة الإنتاج تحت ضغط الدولي لخفض الأسعار، وأن المفاوضات الإيرانية مع أميركا من المتوقع أن تسفر عن دخول 4 ملايين برميل نفط إيراني يومياً، فضلا عن عوامل كثيرة ومتغيرات كبيرة تهدد المشهد العالمي وقد تسهم في إعادة رسم خارطة القوى العالمية، لا أتوقع أن تطول أكثر من عامين لتجد الحكومة نفسها في مواجهة خريطة عالمية جديدة، إذ تتبدّل فيها مراكز القوى وحيث لا ثابت فيها سوى اللا مبالاة، أوقعنا في كارثة غذائية أم وقعت الكارثة 
علينا.  بقدر الصورة المتشائمة التي يرسمها الواقع الدولي الراهن فإنَّ هناك العديد من الإجراءات الحكومية من شأنها أن تسهم في حل جزء كبير من المشكلة، ولعلّي لا أبالغ القول بأنها كفيلة بحل المشكلة كلها، وهذا الحل بالطبع يحتاج وقتا، ولكنه ليس بالوقت الطويل، كون المنشآت الحكومية التي كانت تدير ملف الزراعة طول تاريخ العراق مازالت موجودة وقائمة، والأرض جاهزة، والمياه الجوفية متوفرة وبكثرة، (كحل بديل لحين حسم ملف المياه مع إيران وتركيا)، فضلا عن وجود الخبرة والتي تمتد لأكثر من 8000 عام، إذ علّم وادي الرافدين البشرية الزراعة مع بداية تكوين الوعي الإنساني، ولعل المفارقة أنه بعد هذه الآلاف من السنين يعود العراق يعتمد على الآخرين في توفير الغذاء لأبنائه وهم من علّموا الدنيا كيف تكون 
الزراعة.