ثقافة لوجه الله والوطن

ثقافة 2022/04/18
...

  ياسين طه حافظ

 الحصيلة عموماً أنها عرفّت بنظریات وأفكار شكلت يوما اتجاهات سياسية وهي لهذا دعت للتآلف الوطني، كشرط لتحقيق الأهداف. أية أهداف حققنا وأي تآلف وطني؟. 
لست متشائما ولكني أتحدث بمنطق يتناسب والنظر لما نراه ولما واجهناه ونواجهه، وما نال كل واحد منا وما اضطر إليه من فعل و "خدمات". حتى اليوم، الشعب موزع في خانات أفكاره السياسية. وللدقة أكثر، للأفكار التي يريدونها له. ومع احترامنا للجميع، ولقناعاتهم، إن كانوا مقتنعين، اسألهم وأسـأل نفـسي: أي تلك القناعات السياسية كان ممكنا وعملياً؟ هل كان ممكنا تحقيق الشعار الكريم، وطن حر وشعب سعيد؟ وهو محاط، ضمن هيمنة عالمية واضحة، وكيف يكون سعيداً بزرع محدود وصناعة غائبة ونفط ليس، عموما، لنا؟ محنة هي لنا ولهم، وشرف المحاولة لا يكفي! وحدة، حرية، اشتراكية؟ الوحدة هدف سامٍ نتمناه، ولكننا نتحدث عن الممكن والعملي بأقل المعوقات. إنَّ قادة الأحزاب الوحدويَّة يتنافسون على الزعامات بل يتواطؤون بعضهم على بعض والاتهامات بينهم ما توقفت يوما، والموالون مع قادتهم في الرضا وفي الاتهام، ولا ضرورة بعد للحديث عن الحرية فقد رأيناها، ولا ضرورة بعد للحديث عن الاشتراكية. وأسأل الأسئلة نفسها عن الاتجاهات الدينية، وأنا كما قلت احترم الجميع. أما كان سبيل التثقيف "بالحضاري" والمدني، علوماً وأدباً وأفكاراً وفلسفات وما يلحقها أو يسبقها في الاقتصاد والإدارة والصحة ومتطلبات الثقافة العامة للمجتمع وتهذيبه، أما كان يجب أن تكون هي الشعارات الأولى وهي التي تدعو ونضحي من أجل نشرها وإشاعة الوعي بها؟، أما كانت هذه هي التي تتقدم وتقدم المجتمع فيتعافى من جهله ويغتني بمؤهلات وضرورات تقدمه؟ هذه أهداف، مشتركة للجميع وما كنا نختلف عليها، وإن اختلفنا على السبل الأقصر والأنجح.. هذه خلافات ليست دمويَّة ولا تنتج كراهات مزمنة مثل السياسية المباشرة التي عانينا منها وسنظل نعاني منها. فما دام هناك من وما يغذيها ويفاقمها..
كانت أسئلتي، في حقيقتها، في الثقافة أكثر منها في السياسة.. صلتنا بها هل أكثر مما بالسياسة. فبعد هكذا تنوير تشارك به جميع الاتجاهات، سيكون الخلاف في الأفكار السياسية، بلا أسلحة. ستكون وراء الخلافات ثقافة وتحضر وسلوك مدني متحضر. هل تراني بهذا الطرح حكيما أم أبدو ساذجاً، ينسى أن هناك مصالح دولية وأن الناس تريد أن تكسب وأن تنال حظوة ومناصب وتفيد من فرص أو تخدم غايات أخرى مكلفين بها؟.
لكن هذه يا سادتي، لا تحول من دون الكلام في ما هو أنفع وأكثر صواباً، وألا نظل نعمل في سياقات لا تحقق أهدافاً ولا تبقي ألفة وسلاماً. سيقول أحد: وهل تترك المذاهب السياسية؟ 
أقول لا نتركها، ولكن ليكن الإصلاح المدني ولتكن الثقافة علوماً وأفكاراً وسلوكاً مدنياً، وليكن فهم الواقع والوعي، أهدافاً شعبية ونضالية بهذا المعنى الثقافي المدني وهو وعي جماعي وبلا دم وبنادق. أما أن يعتقد كل طرف بأنَّ هذه لا تتحقق إلّا بآياته ومعجزاته هو أو أفكاره، فهذا ما لا يمكن الاقتناع به ولا الرضا بجديته، بل فيه مصادرة وهيمنة لا ترضي الغير وتخرّب وتـسفح دماً وقد رأينا ذلك!.
"التجربة، أو التجارب على مدى قرن عربي وقرون في العالم، أثبتت أنَّ الثقافة والمعرفة وتطور البنى الاجتماعيه مدنياً، أسس أولى يجب ألا تنسى وأيضاً ألا تُحْتَكر. وأنَّ الثقافة والمعارف هذه يجب أن تكون هدفاً أولا ومشتركاً للجميع.
حقيقةً، وقد تستغربون، أنَّ الذي أثار هذا الموضوع ودفعني إليه اليوم وقد انتهيت من مراسيم الفاتحة، هو الفعل الثقافي الخير الذي ينهض به رجال مبارکون وأول من حضر في رأسي أنموذج إنساني، شخصية معرفية جليلة القدر، هو أستاذ التاريخ إبراهيم العلاف، هذا الرجل ينشر معارف وثقافة لجميع الناس يشيع بسخاء روحي معلومات مفيدة، وبلا كلل، ثقافة لجميع الناس. هو مدرسة خيريَّة تعطي الناس ثقافة وطنيَّة، تكشف لهم ما في وطنهم وينشر علماً. هو يجمع بين الإخلاص للثقافة والعمل الوطني. وقبله مثال كريم جليل القدر هو الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله، الذي أشاع ثقافة دينيَّة متوازنة كاشفة وبمرجعيات سليمة. الأستاذ العلّاف يتحدث عن تاريخ الموصل ناسها تجارها، آثارها محلاتها بيوتاتها القديمة ويتحدث عن العراق كله، يثني على الجيد ويشير لما هو خطأ أو يضر. فرد لا مؤسسة وراءه ولا سواها، وليس لغير وجه الله وجه الوطن.
 كم أتمنى، لكل مدينة، كل بلدة، شخصية، بل شخصیات، محترمة علميّاً تتابع تاريخ المدينة وما فيها من إشكالات أو مزايا. وأوصلنا للناس ما لدينا من علم عنها وما اطلعنا عليه. إذاً لكان لنا أرشيف عظيم لمدائن الوطن وناسه وأعلامه وما فيها من الثقافة خاصة وآثار، أرشيف وطني عظيم ألّفه ناسٌ كرامٌ أحبوا الثقافة وأحبوا الناس وأحبوا الوطن. ذكرت مثلين قريبين ولنا أمثلة كريمة أخرى من هؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم مدارس خيريَّة لنشر الثقافة وتعليم الناس تاریخ وحاضر أوطانهم، فئة قليلة مباركة تعرف وتوضّح وتصوّب وتكشف وترى وتؤرشف وتنشر حقائق ومعارف، تسهم في تربية الناس وفي ثقيفهم بواقعهم المحلي والدولي.  الثقافة الرصينة لا تتقبّل الانحياز الشرس والعصبية والحمق، بل يكتسب الناس فيها علماً وفهماً ولياقات مدنيَّة.
كل ما يؤمن به ويؤمن به غيره هكذا ثقافة عامة تمكّن الأفكار السياسيَّة من أن تتقدّم بيسر. وإلّا، فمن دونها، الاستعانة بالسلاح والتآمر مع الأجنبي وخسارة الناس والوطن.
وأعود لمزيد من التأكيد إلى تساؤلي كم ستكون الثقافة والمعارف السليمة والوعي بالشؤون العامة لو أن كل الأطراف، كل الفئات، وخلال ما يقارب القرن من الزمان قد عملوا بمثل ذلك وسعوا هذا المسعى؟، أما كان قبول نظرياتهم ومبادئهم أيسر وأقل كلفة بشريَّة، وما أريق دم بهذا الكم المفزع والضحايا بمثل ذلك العدد الذي رأيناه؟ سلاماً أيّها المخلصون.
 أردت اليوم التجرؤ على رأي أو هو استدراك على آراء وأفكار ارتضيناها يوما، أقول: نعم، الأحزاب أفادت بتوسيع الوعي السياسي وإشاعته. ونعلم أنَّ فيها الأصيل وفيها المشوب ووراء بعضها ما وراءه،