بومة حسب: التجربة الإنسانيَّة والابتكار النَّصِّي

ثقافة 2022/04/18
...

 د. كريم شغيدل
 
 ابتداءً من العنوان، يضعنا الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر بمواجهة بنية سردية على المستوى التركيبي للجملة (الفراشة والعكاز) على الرغم من أن دلالة المفردتين تنطوي على طاقة إيحائية أو ربما رمزية تنتمي للشعر، ذلك أن بنية العطف في جملة العنوان تستعيد في ذهن القارئ الكثير من الثنائيات السردية أو القابلة لتكوين سرديات مختلفة، ومن هذه الثنائيات: الخير والشر، الحق والباطل، الجلاد والضحية إلخ.. لكن ثنائية الفراشة والعكاز ليست ثنائية موضوعية كبقية الثنائيات السياقية المتداولة، إنما ثنائية فيها من التغريب ما يجعلها تنطوي على انزياح دلالي، فهل قصد الشاعر فكرة الصراع بين الجمال والقبح، بين الاكتمال والنقص، بين الانطلاق والتعثر، بين السرعة والبطء؟ أم أنه قصد فكرة الصراع بين حلم الحرية وتدهور الواقع؟ أظنه قصد كل ذلك وأبعد من ذلك، بهذه الخلاصة الدلالية التي جسَّدها العنوان. 
     إنَّ السرد في ديوان (الفراشة والعكاز) ليس ملمحاً فنياً عابراً، أو مجرد خاصية أسلوبية، أو مدخلاً جمالياً للتعبير، ولم يكن مجرد تداخل عرضي بين الغنائي/ الذاتي والموضوعي، بل هو ستراتيجية نصية مبنية بقصدية واعية، وهنا "لا بدَّ أن نكون ماهرين في فرز عناصر النص (السردية، الدرامية، الخطابية، الشخصية) الغائبة بسبب الطبيعة الاجمالية التي تعتمد الحذف البلاغي في الخطاب الشعري" كما يقول روبرت شولز، فالقصائد الثمانية عشرة الأولى، وهي متوسطة الحجم، تتخذ من السرد رؤية وبناءً فنياً، من دون أن يعمد الشاعر إلى تأطيرها شكلياً كالقصائد اللاحقة التي أعلنت أشكالها عن سرديتها مباشرة، فعناوينها، أي القصائد الأولى، أقرب للطابع السردي، وأقرب للموضوعية من الترميز أو الإيحاء أو التأويلات الشعرية، ومنها: خطوة في الضباب، المنقار، الجثة، القفص، بيت الرياح، صندوق الدنيا، العثة، الخفاش..إلخ.. وجميع هذه القصائد عبارة عن حكايات مسرودة بلغة شعرية تنحاز إلى تنامي الفكرة أو الحدث بدل الاستعارة أو إلى إحكام الحكاية ببنية دائرية أو نهاية مفتوحة، أي اللعب على التقنيات الفنية المتبادلة بين الشعر والقص، وقد حرص الشاعر على الاشتغال القصدي على عناصر السرد وتقنياته، من راوٍ، يمثله عادة الشاعر/ السارد، وحكاية وحدث منسوج واسترجاع، وفضاء زمني ومسرح مكاني للأحداث والشخوص، وأحياناً وجهة نظر تتخلل طيات النص، وحوار داخلي (مونولوج) ووقفات وصفية للأجواء والمناخ النفسي للحدث أو الطقس أو الوقت أو المشهدية السردية بصورة عامة، فضلاً عن صيغ التكرار الدالة على الإيغال بالسرد إلى مستوى 
الحكي. 
سنحاول هنا تحليل العلامات السردية في قصيدة (المنقار) (المجموعة: 10- 11) يفترض الشاعر حكاية غرائبية، ربما أراد من خلالها أن يعكس بعض هواجسه النفسية عن الخراب، وملخص الحكاية أن الراوي/ الشاعر/ البطل، يشتري من سوق السراي، بومة محنَّطة ويضعها على رفِّ بغرفته، وفي الليل تبعث فيها الروح لتمارس غريزتها المتوحّشة، فيفكّر ببيعها لكن سرعان ما يتخلى عنها الصبي المشتري، فيلقي بها في المجاري، لكنّه حين يعود إلى البيت يجدها على الرفِّ ثانية، حكاية طريفة وبسيطة، على الرغم من غرائبيتها، وقد تم توظيفها شعرياً على نحو عميق لتجسيد المخاوف التي تنتجها الوحدة، ومن ثم سيطرة الوهم، والحكاية تبدأ من مكان حقيقي (سوق السراي) وزمن ماضٍ غير محدد "سرت في (السراي) يوماً فاشتريت/ بومة محشوة الجلد بقش وخيوط/ لم تزل مهملة بين المسابح/ والرقى والكتب الصفر (المريبة)".
 نلحظ أنَّ الشاعر/ الراوي قد اختار ديكوراً دالاً يحيط بالبومة (مسابح ورقى وكتب صفر مريبة)، فربما أراد الإشارة هنا إلى الخراب الثقافي، موظفاً الصفة الرمزية للبوم (التشاؤم) والعيش في الخرائب، وفي مكان يفترض أنه مخصص لبيع الكتب بمحمولاتها الثقافية والمعرفية؟ التي تحولت في هذه الواقعة إلى مسابح ورقى، إشارة إلى طغيان الجانب الخرافي وليس العقلي من الدين، أما الكتب الصفر المريبة فهي ربما كتب الدجل والشعوذة، أو كتب التسطيح الثقافي والتطرّف وما شابه ذلك، ثم يستمر سرد الحكاية "فتخيّرت لها في غرفتي الرفّ المعلّق/ عاليّاً كالعشِّ تحت الكوّة المنفتحة!" وهنا يرسم الشاعر صورة مشهدية، ثم يبدأ الحدث "حينما أيقظني (التنعاب) في أول ليلة/ خلت أني بين أطراف القرى والنخل ليلاً أتمشّى"، إذ ينقلنا الشاعر إلى مكان ضمني يستعيد من خلاله حنينه إلى الريف، ويتصاعد الحدث "غير أنَّ (الصوت) من ليلٍ إلى ليلٍ يعود/ ويسلُّ النوم من أجفاني الثقلى فأصحو/ وأرى البومة من فوقي تحوم/ ساعة قبل اعتكار الضوء في الكوّة فجراً وتعود/ (رمة) محشّوة الجلد بقشٍّ وخيوط!"، ثم يتطور الحدث من الصوت إلى الحركة ثم العودة إلى السكون بتوقيت زمني مرتبط بطلوع الفجر، وهذه إشارة رمزية واضحة، وتوظيف شعري للزمن، وينقلنا النص إلى حوار ذاتي (مونولوج مركب) لأنه يبدو في أوله حواراً موجهاً إلى آخر مفترض "إنما أربكني منها الخروج/ وعراك القطط الحمقى ببابي وانتثار/ أعظم الفئران، في الحجرة، والريش المدمَّى!/ قلتُ: (لن يهدأ لي بال وبيتي مسلخ/ تلهو بجنبيه الجوارح!)/ قلتُ: (إنَّي بائعٌ زينتها الجوفاء في السوق/ فتخلو لي الربوع!)"، وهنا يفترض الراوي/ البطل/ الشاعر (مرويّاً له) فيرسم مشهداً من القسوة والوحشيَّة ليحقق عنصر الإثارة في احتدام الحدث أو بلوغه ذروته إذ "ليس هناك شك في أن المشهد يحتل مكانة محترمة من حيث كونه أكثر الوسائل استعداداً لإثارة الاهتمام والتساؤل"، كما يقول بيرسي لوبوك، ليسوّغ فكرة التخلّص من البومة ويحكم حبكة الحكاية، ثم يتألف حدث ثانوي مركّب وسريع وتظهر شخصية ثانوية لتقوية النسيج الحكائي "واشتراها أحد الصبيان منِّي،/ وسريعاً ما تخلّى/ عائذاً بالله من منقارها الدامي الملطّخ/ واتّقاد الشرر الأصفر في أحداقها الزرق الصقيلة!"، والصبي هنا لا يخلو من محمول رمزي لكونه يمثل نوعاً ما البراءة والفطرة والنقاء، كما يمثل المستقبل الذي نطمح بتخلصه من مظاهر العنف والقسوة، ثم ينتقل الحدث إلى خيار آخر ومكان جديد "قلتُ: (أرميها إلى المجرى،/ فقد يحملها الماء إلى البستان/ أو تحلو بعينيها الخرابة!)/ وجرى بالبومة الماء وأخفتها (المجاري)".
 وهنا الذروة التي توحي بنهاية الحدث باختفاء البومة الذي وضع لها السارد خيارين مختلفي الدلالة والرمزية (البستان أو الخرابة) وكأنَّ البطل سيعود يتابع حياته بمثل ما كانت عليه قبل ابتلائه بالكائن الخرافي الذي خرَّب حياته، لكن الحكاية لم تقف عند هذا الحدّ بل كسرت أفق التوقّع بعودة البوم إلى مكانها وتفشي الخراب خارج الغرفة "بيدَ أنِّي عندما عدتُ إلى الغرفة في الليل التقيت/ وهج نارين كأضواء تلوح/ بين أطراف القرى والنخل ليلاً في المزارع/ وهي تحت الكوّة المنفتحة/ لم تزل تنفض عنها القطرات الدبقة"، إنَّ شراء طائر محنّط ووضعه على رفٍّ في غرفة واقعة حياتية بسيطة، لكن أن تنبعث الحياة في الطائر ليلاً، فهذه خرافة من صنع الخيال، وهذه هي فرضية القصيدة في توظيف الواقعة الحياتية وتفجير سياقاتها الواقعية لتنتج نصّاً رمزيّاً يفضي إلى مدلول واقعي، فدلالات التشاؤم والقسوة والخوف والخراب الثقافي والحياتي التي حفل بها النص، إنما أرادت أن توصل رسالة أخلاقية/ ثقافية محرّضة، تشير إلى خطر يداهم حياتنا ويقلق وجودنا. 
على هذا المنوال يمكننا تتبع الفرضيات السردية للقصائد المتشابهة في بنائها ولم تختلف في مستوى التوظيف، ونعني بها القصائد الثمانية عشرة الأولى، وهي ذات بناء مختلف عن بقية نصوص الديوان، وما يجمع بينها أيضاً أنّها تروى على طريقة الحوار الذاتي، وبذلك تكون أقرب إلى غنائية الشعر بما لا يتناقض مع التقنيات السردية ذلك أنَّ "باختين يستخدم مصطلحي "الحواري" و "الحواريَّة" بصورة موسّعة إلى الدرجة التي يصير فيها، "الحديث الذاتي" نفسه حوارياً (بمعنى أنَّ للأخير بعداً تناصيّاً)"، كما يذكر تودوروف، الأمر الآخر أنَّ جميع هذه النصوص بُنيت على تقنية الراوي المشارك، وعادة ما يكون بطلاً مستلباً، أو ضحية، أو طرفاً تزجّ به الأقدار في صراعات يغلب عليها الطابع النفسي مع الأشياء أو مع أشخاص وجثث، وقد اتّسمت هذه القصائد بالبنية الدائريَّة، أي أنَّها تنتهي من حيث تبدأ.
  أمّا النصوص الأخرى فتنقسم على نمطين، الأول يشمل نصوص (الصفارة، الخيط المقطوع، أغنية السنونو البيضاء) وكل منها بُنيت على فرضية حواريَّة، والثاني هو مجموع النصوص التي جاءت بعنوانات مستقلة وترقيمات وعنوانات ضمنية، تحت عنوان (من صحائف الشيخ ساهي بن يقظان)، ونرى أنَّ السرديَّة التي طغت على نصوص (الفراشة والعكّاز)، لم تأتِ من فراغ، أو لمجرد التوظيف الشكلي، بل هي اختزالات سيروية لتجربة ثقافية متراكمة للشاعر، تجربة الكتابة والترجمة والسفر والانتماء الأيديولوجي، فضلاً عن التجربة الإنسانية، الطفولة والحب والتمرّد وذكريات الريف وقسوة المدينة، وحسب الشيخ جعفر في عموم تجربته، وليس في هذا الديوان فقط، لم يكن شاعر موضوعات وصياغات شعريَّة، إنّما كان شاعر تجربة إنسانيَّة.