الشعر والتحديَّات الزمنيَّة

ثقافة 2022/04/19
...

 أحمد الشطري
 
العلاقة بين الشعر والزمن علاقة متلازمة ومتداخلة لا بوصف الزمن محدداً تاريخياً فحسب، بل بوصفهما عنصرين متعالقين.
وبدءا فإني أرى أن الشعر بمعناه التوصيفي وليس الشكلي قد ولد مع أولى ارهاصات التفكير الإنساني وتفاعله مع ما يحيط به من كائنات وأشياء، باعتباره الفن الأقرب للتناول في التعبير عن المشاعر التي تعتمل في داخل الإنسان، ومن ثم انطلق في البحث عن الأجناس التعبيرية الأخرى، في الرسم والحكاية وغيرها من الفنون، استجابة للحاجات المختلفة التي بدأت تواجهه في مسيرة حياته وتغيراتها وتقلباتها، ورغم ذلك لم يتمكن أي جنس تعبيري كلامي من إلغاء الأجناس الأخرى. قد يتطور ذلك الجنس إلى شكل آخر مقارب أو يحمل جذوراً من الأجناس التي سبقته، غير أن الشعر بقي بذات التجنيس سواء اختلفت أدواته أم تقنياته أم أشكاله، فالملحمة والحكاية والمقامة تطورت إلى فنون متعددة كالمسرح والرواية والقصة. 
حتى راج في العقود الأخيرة اعتقاد قار ‏بأن هذا الزمن هو زمن الرواية، والواقع أن كل الأزمنة هي أزمنة الشعر مهما خُيِّل للبعض أنه انزوى أو تراجع عن مكانته ودائرة تأثيره، لأنه فعل مرتبط بانفعالات الإنسان وعواطفه وأفكاره، وهو الأكثر قرباً في التناول أو التداول بين المتخاطبين باعتباره فعلاً كلامياً يجمع بين الشفاهية والتدوينية وهو قابل للبسط والانقباض أيضا. أما الفنون الكلامية الأخرى والتي تتطلب مساحة كلامية وزمانية واسعة فهي تقع تحت تأثير الظروف وتخضع لعملية المنافسة مع التطور التكنولوجي المتسارع والذي أصبح أشبه بأساطير السحرة، مما مهّد لتحول الرواية والقصة على وجه الخصوص إلى مادة أولية للفن السينمائي، وقد تتحول مع التطور المستمر في العلاقة بين الأجهزة التكنولوجية الحديثة والمتعاملين معها إلى مجرد مادة أولية ينحصر الاهتمام بها بصانعي الفيلم، باعتبار أن الحدث المجسد في السينما (وأقصد بها المادة الفيلمية وليس المسمى الاصطلاحي والتي تشكل المادة التسجيلية للعمل الدرامي) أكثر تشويقاً من الحدث الموصوف في الكلمات، مضافاً إلى ذلك ما توفره المخيلة الصورية السينمائية من إغراءات ومن قدرات تجاوزت كل القدرات الوصفية للكلمات، وإذا كان ثمة من بقي مشدوداً إلى التلقي القرائي للمنتج السردي في الوقت الحاضر أو ما يليه من عقود معدودة مقبلة، فإن ذلك ناتج عن مخلفات الزمن الماضي عند الذين ما زالوا متمسكين ببعض أدوات التلقي الماضية أي تلك العلاقة الرابطة بين القارئ والكتاب. وعندما نتحدث عن الشعر، فإننا وبلا شك نعني بذلك الشعر الذي يعبر عن الهم الذاتي ‏للإنسان، عن انفعالاته الذاتية ذات الزمنية الطولية وليست العرضية، أي ذلك ‏الشعر الذي لا ينتج عن انفعال مناسباتي محدود التأثير سواء بذات الشاعر أو بفئة ‏أو فترة زمنية
محددة. 
‏ومع ذلك فلا بد أن نشير إلى أنه حتى ذلك الشعر المرتبط بمناسبة معينة لا يخلو من ‏الجماليات التي تغري بقراءته واستعادته بغض النظر عن ماهية مناسبته، ولكن ‏تأثيره يبقى منحصراً بما ينطوي عليه الجانب التعبيري من قيم جمالية من دون القيم ‏الفكرية والتاريخية، وكمثال على ذلك أننا ما زلنا نقرأ بشغف قصائد المتنبي على سبيل المثال لا الحصر في مدح سيف الدولة أو غيره من ممدوحيه أو وصف المعارك والتفاعل معها، وتذوق أسلوبها الفني والبلاغي والتصوير الجمالي التي تنطوي عليه من دون النظر بهوية الممدوح وسيرته ورؤيتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية له، وبغض النظر عن أهمية تلك المعركة أو نتائجها أو آثارها الإنسانية.  
أما ذلك الشعر ذو البعد الطولي والذي ينطوي على مجموعة القيم ‏الجمالية المتكاملة في جوانبها الفكرية والإنسانية والتعبيرية فيبقى يملك الحضور ‏الدائم في ذاكرة المتلقين مهما تغيرت الظروف والأزمنة لأن الثوابت الإنسانية لن تتغير وخاصة ما يتعلق بالجانب العاطفي منها.  
وتأسيسا على ذلك فإننا نرى بأن الشعر- بغض النظر عن شكله الخارجي وطابعه الأسلوبي اللذين يمثلان الجانب المتحرك – يبقى متسامياً ومضاداً لكل التغيرات الزمنية والحضارية والتقنية والاجتماعية.   ‏