في فضيلة الشك

ثقافة 2022/04/19
...

  برهان شاوي
في كتابه الممتع «الواقع ليس كما يبدو – رحلة إلى الجاذبية الكمية» يكتب كارلو روفيلي ما يلي: «يولد العلم من عدم الثقة العمياء في معرفة الماضي والحدس، وعدم تصديق ما يقوله الجميع، يولد العلم من عدم تصديق المعرفة المتراكمة من آبائنا وأجدادنا، إننا لن نتعلّم شيئًا إذا اعتقدنا أننا نعرف بالفعل الأمور الأساسية. ولو كان آينشتاين ونيوتن وكوبرنيكوس وثقوا في معرفة آبائهم، لما شككوا مطلقًا ولما تمكّنوا من المضي قدما بالمعرفة. ولو لم تثر الشكوك لظللنا نعبد الفراعنة ونعتقد أن الأرض مثبتة على ظهر سلحفاة عملاقة».
 
فضيلة الشك أنه يزلزل الثوابت. ويحطم الأصنام المقدسة وغير المقدسة. فهو السبيل الموثوق للوصول إلى يقين المعرفة، التي بدورها تحتاج إلى الشك كي تتجدد. ألم يشك النبي إبراهيم في الخالق فعبد الشمس والقمر وأشياء أخرى لكنه كل مرة كان يشك ويتخلخل يقينه فيتجه بشكه إلى أفق آخر. 
أصحاب اليقين الراسخ يعتقدون أنَّ الشك لعنة، ووسواس، ومس من الشيطان، لذا حاربت الأديانُ الشكَّ باعتباره نقيض الإيمان، بل واعتبرت الشك شرًّا، لذا قامت بعض الأديان بمعاقبة الشكاكين باعتبارهم كفرة وملحدين، بينما الشك قلق فكري وتأمل عقلي وروحاني في حقيقة الأشياء ويقينها مهما كانت مقدسة، على عكس أصحاب اليقين المطمئنين ليقينهم ولفردوسهم.
بيد أنَّ الشكَّ ليس دائما تأمّلا عقليا وروحانيا وإنما هو التباس وارتياب وحالة نفسية غير مستقرة تتأرجح ما بين الإثبات والنفي، بين الاحتمال والمؤكد، بين سوء الظن ويقين الوهم. لكن تاريخيا وفلسفيا وفكريا وعقائديا كان ينظر إلى الشك الديني باعتباره هو المقصود من مفهوم «الشك» وليس أي نوع من أنواع الشك.
 في كتابها المهم «تاريخ الشك» تكتب جينيفر مايكل هيكت: « يرفض المؤمنون أخذ معقولية الشك بالحسبان، ويرفض غير المؤمنين أخذ الشعور بالإيمان بالحسبان، كما يثمن المؤمنون لغز قدرة البشر على الإحساس حين ينظرون إلى الباطن أو الما وراء، كذلك يثمّن غير المؤمنين القدرة على تنظيم العالم من خلال البراهين العقلية. ومع ذلك، ثمة ضرب من العماء
 المتبادل».
في الصراع بين الشك والإيمان يرى المؤمنون بأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة التي لا تقبل الجدل ولا تقبل النزول إلى منطقة التجريب، بل ولا تقبل التبديل والتطوير والمس فهي خارج التاريخ. 
الإيمان وجد تجلياته في السحر وفي الدين. بيد أن تاريخ الفكر البشري هو تاريخ الأسئلة. فحتى السحر والدين هما نتاج أسئلة الإنسان. والأسئلة هي التي أنجبت الفلسفة. والأسئلة تنبع من الشك والتأمل واللا يقين. بدأت الفلسفة من الأسئلة. بدأت الفلسفة من الشك في اليقينيات المطلقة: من الذي خلق الكون؟ ومن خلق الخالق؟ ولماذا وجد الوجود؟ وكيف وجد؟ وما غاية الحياة الإنسانية؟ ومن أين جئنا؟ وإلى أين نمضي بعد الموت؟ وهكذا انهمرت أمطار الأسئلة. وهكذا بدأت الفلسفة. وهكذا حارب أبو حامد الغزالي الفلسفة وطارد الفلاسفة!
لقد تصدت الأديان لهذه الأسئلة وحاولت تقديم أجوبتها، لكنها حين عجزت عن السيطرة على العقل البشري وأسئلته المارقة أخذت تطارد الأسئلة والسائلين. لكن الأسئلة، الشك، تغلغل إلى عقول وأرواح بعض القديسين الذين اقتربوا من حدود الفلسفة. وقد جسد القديس أوغسطين محنة الفكر والسؤال مازحا، من خلال سؤاله وجوابه: ماذا كان الله يفعل قبل أن يخلق الكون؟ وأجاب مازحا على سؤاله: كان يعد الجحيم لمن يسأل هذا السؤال..!.  
لكن أسئلة العقل والفكر أبعد من الأسئلة الفلسفية. ولأن الفلسفة والفلاسفة طوردوا من قبل رجال الدين والسلطات الدينية عبر التاريخ؛ لذا حين دخلت البشرية مرحلة (العلم) وجدت أن العلم صار يقترب من هذه الأسئلة، لذا بدأت المواجهة بين الدين والعلم. فقدمت البشرية قرابين من العلماء على مذبح العقائد الدينية.
محاولات التجديد الديني سعت إلى مواجهة العلم لكن من خلال لَي رقبة العلم وإدخاله في بوتقة الدين، فكل اكتشاف علمي يتصدى له رجال الدين أو المؤمنون ليقولوا لك إن هذا موجود في كتبنا المقدسة. 
لا أود الحديث عن صراع الدين والفلسفة والعلم، لكني أعود إلى عنوان الخاطرة، بأنّ للشك الدور الأكبر في إثارة الأسئلة بما في ذلك تطوير الإيمان الديني وتعميقه وإبعاده عن الطقوسية الجامدة، أو في تطوير آفاق العلم بحيث يقترب من الما ورائيات وأسئلة الفلسفة. وفعلا دخل العلم الآن إلى منطقة ميتافيزيقية ما ورائية، إلى ما وراء حافات الكون لنعرف كيف وجد الوجود؟ وماذا كان قبل أن يُخلق الوجود؟ التطور البشري بدأ من الشك.