ترنيمة ساحرة

ثقافة 2022/04/19
...

ستار كاووش

رحلتنا اليوم مع الفنان الفرنسي فرانسوا ميليه (1814 - 1875)، هذا الفنان الذي عاش ونشأ وسط الفلاحين، وتفرغ في شبابه لمساعدة والده بالعمل في المزرعة، وبسبب معرفته بكل التفاصيل التي تتعلق بعمل الفلاحين فقد انعكسَ ذلك في ما بعد على أغلب الموضوعات والتفاصيل التي رسمها في لوحاته الرائعة. فقد كان خبيراً بالزرع، التبن، الحصاد، الدرس، التذرية، نشر السماد، الحرث، البذر وكل ما يتعلق بعمل الفلاحين، لذا رسم كل ذلك بعين الفنان المرهف والفلاح الخبير. تقدم هذا الفنان بأولى لوحاته بغرض عرضها في صالون الفن، لكنها رُفضت ولم تُعرض، لكنه لم ييأس وظلَّ يجاهد للوصول إلى مكانته كفنان عظيم ومؤثر، فتعرَّفَ أواسط أربعينيات القرن التاسع عشر على مجموعة من الفنانين الذي انجذبوا لرسم الطبيعة، وأسس معهم ما يُسمى بمدرسة الباربيزون، إذ انشغلوا وقتها برسم مناظر طبيعية في الهواء الطلق. وما قاموا به كان من المؤثرات الكبيرة والمهمة في ظهور المدرسة الانطباعية في ما بعد. 
لوحتنا هنا هي (صلاة في الحقل)، التي غيَّرَ اسمها بعد ذلك ومنحها اسم (الملائكة)، وقد رسمها سنة 1857 وهي من أشهر أعماله وأكثرها رسوخاً في تاريخ الفن الفرنسي والعالمي، ويُظهر فيها مزارعاً وزوجته يتوقفان مساء وسط الحقل، ليتلوا الصلاة في نهاية يوم عمل شاق. وهي من مجموعة متحف دي أورسيه في باريس. أعظم ما في هذه اللوحة هو مناخها المذهل، لدرجة شعورك بأنك جزء من هذا المكان الجليل ذي السكون العجيب. هنا كان الفلاحون وقتها يتوقفون عن العمل ويصلون ثلاث مرات في الحقل حين يسمعون صوت جرس الكنيسة المحاذية لهم (وقت ظهور الملاك) في السادسة صباحاً والثانية عشرة ظهراً والسادسة مساءً. يقفون في صمت وهيبة بعد أن يتوقفوا عن جمع محصول البطاطس، كما نرى من خلال الأدوات التي قربهما في اللوحة. وبرغم أن هذه اللوحة ليست لوحة دينية، لكنها تحمل بين ثناياها نوعاً من الخشوع وتعبِّر عن التقوى المتواضعة للكثير من الفلاحين، وما يؤكد ذلك ويزيده قوة، هو أن ميليه جعل ملامح الشخصيتين غير واضحة، وبذلك ابتعدت اللوحة عن تشخيصها لفرد محدد، وصارت نموذجاً لكل فلاحي الريف البسطاء الطيبين. 
لقد أثَّرَ ميليه في الكثير من الفنانين الكبار الذين جاؤوا بعده. فقد انشغلَ فنسنت فان خوخ في كل حياته بتعظيم وتقدير أعمال ميليه، وقد أعادَ فنسنت رسم عشرات اللوحات لهذا الفنان، لكن بأسلوبه الخاص، إذ كان ميليه بالنسبة له هو المثال العظيم على قوة وجمال الرسم. وقد كتب فنسنت فان خوخ عن هذه اللوحة في إحدى رسائله التي ترجَمتُها من الهولندية، مخاطباً أخاه تَيّو (هذه ليست مجرد لوحة، إنها نوع من الشعر، بل هي موسيقى. يا لها من ترنيمة ساحرة…).
كذلك وقع سلفادور دالي تحت تأثير هذا الفنان المُلهم، إذ اعتبره أحد أساتذة الفن الذين أثروا في رؤيته الفنية، وقد أعاد دالي رسم هذه اللوحة بطريقته السيريالية. ومن فرط اهتمامه به ودراسة كل تفاصيل لوحاته، قام دالي بالتشكيك بموضوع اللوحة (المتعارف عليه)، إذ أكد بشكل قاطع أن الرجل والمرأة في هذه اللوحة يصليان بحزن لطفلهما الميت تواً. والغريب هو بعدَ أن تَمَّ فحص اللوحة بالأشعة السينية، أظهرت النتائج أن هناك ما يشبه الصندوق، كان ميليه قد رسمه أولاً تحت ألوان السلة المليئة بالبطاطس التي تظهر في اللوحة، وقال دالي عندها إن هذا الصندوق هو ضريح الطفل، والمشهد هنا هو صلاة عند قبر الرضيع.