السلطة النسقيَّة للمتلقي

ثقافة 2022/04/23
...

 ميثم الخزرجي
 
ما الذي يريده المتلقي من الشاعر أكثر من كونه الصوت الذي يؤرخ معاناته ووجعه ليستلذ بهذا المدار اليومي، وكأنه يستمع لمدونته المليئة بالانكسارات من خلال التحشيد أو الإثارة أو ربما التذكير بتاريخه المكتظ بالصراعات السياسية أو الاجتماعية؟ وهل ثمة دلالة معينة يحتكم لها الشاعر إزاء النص الذي يكتبه بعيداً عن فنيته التي يؤثث نصه عبرها، أم أن شعبوية النص وجمهرته تعطي رواجاً ودفقاً معنوياً تفوق الضرورات والعدة الفنية الظاهرة في مشغله الجمالي؟، ومن هو المتلقي يا ترى؟، هل الأديب العضوي الملتزم بسلطة النسق النقابي والمعبأ بسياقها العام، والذي ينظر إلى النص بوصفه نصاً متحرراً غير مقيد على أن يتحاشى المساس أو الإشارة بهيكلية المؤسسة، وهنا تحدث      المفارقة، أم أنه المقاطع المتمرّد الذي يربأ بنفسه أن يدار من خلالها، أو لعله الفكر أو المعتقد الذي يتبناه الأديب ليتماهى معه قصداً أو من دون قصد، أو ربما المتلقي صاحب المقهى الذي ينعته بالأستاذ حال دخوله عتبة المكان ليتفاخر أمام الرهط من أن جلّاسه شريحة من المثقفين؟.   لطالما تأمّلت بالطرح الذي أطلقه أدونيس بأنّ غالبية النصوص التي تلقفها المتلقي واستقر عندها هي نصوص مبتذلة، إذ ذكر أسماء من الشعراء ضج بهم المشهد العربي وما وصلوا من الشهرة قبالة تسليعهم لمادتهم المستهلكة بمستواها الفني البسيط.  من الضروري هنا أن نوضح النص المبتذل، هل هو المباشر والمفضوح برؤاه المضمرة والمعلنة، رغم علمنا بأن أدونيس يعارض النصوص المدوّنة لأغراض تستحضر العاطفة المترهّلة والمهادنة المتخاذلة، كونها غير خاضعة لمقدرة الشاعر وأنساقه الوجوديّة، وكذلك النص الذي يكتب وفقاً لأجندات معيّنة تماهى معها الشاعر وصارت من ضمن متبنياته، ليكتبها متى ما حان طقسها. 
علينا أن نؤمن بأنّ هناك بواعث نفسيّة عديدة تلزم الشاعر لكتابة متنه الأدبي بعيداً عن مواطن تلك البواعث ومدى جديتها، ذاتية كانت أم كحالة لها مشترطاتها ودلائلها المجتمعيّة.. لكن هل يتوجب على الشاعر أن يكون منصاعاً للمتلقي ليكبّل الأخير فضاءه الجدلي تبعاً لإرضائه وتغييب مشغله الفني وصلته بالمعنى؟. 
من الواضع أنَّ مادة الشاعر هو الواقع والأثر الذي ينطلق منه، ليجهد نفسه في توظيف وتكريس هذه المستجدات كونها الصورة المعبّرة عن محنة الإنسان ومآسيه فيما لو ابتعدنا عن مخاض السؤال الإشكالي واتساقه مع أزمات ونكبات ذلك الوقع لوجدنا أن هناك انصياعاً غير مدروس يحسب على بعض النصوص الشعرية المستهلكة والمجانية التي أفشت وكشفت هاجس الشاعر ونزعته للكتابة على حساب ورشته الجمالية. ثمة من يسأل عن مدى انطلاق الشاعر وحيازة نصه إزاء التراكمات المتواترة ليكون القول مجازاً عن وضع المتلقي هامشاً نسقياً وتعضيد تساؤلاته اليومية وترميمها بعدّة لها مساربها الجمالية. 
إنَّ المتلقي هو الدالّة التي تحقق غاية النص وتمرير خزانة الأسئلة المجترحة بلسان حاله بل تزيد من الثقة التي يدّعيها الشاعر، والذي يبرهن أحقية الطرح الذي يسكبه في متنه الأدبي، فله القدح المعلى في ماهية الاستيلاء على جميع مدخلات النص إيجابية كانت أم سلبية، بيد أنه لا يحسب له حساباً حيال الهم الكوني الذي يتخذه الشاعر لحظة الكتابة، فالشاعر غير مخيّر ازاء ترميم مشروعه الجمالي؛ لذا يتوجب عليه أن تكون الأولوية والسبق للنص بكل لوازمه وممكناته الفنية، مترفّعاً عن الانجرار واللهاث وراء مجانية الشهرة على حساب اللوعة المتمثلة بتحشيد الأفكار المنزاحة بنزعتها الإنسانية التي تعطي استمرارية وعمراً مضافاً إلى عمر النص.  فلو اقتفينا أثر النصوص المعمّرة ولمختلف الأجناس الأدبية لوجدنا أن هناك استلالاً للمفاهيم التنويرية والمضامين المعرفية التي تنم عن دراية ووعي محكم كونها خارجة من مشغل مستتب غير قلق لا يحاكي كاتبها ذات المتلقي ليحبس أنفاس قاعه الثقافي ونظرته للعالم عبر نص وذخيرة اضاءت معناه مجتزئا الكثير من عدته الجمالية، محاولاً أن يلوّح ويهتم لمن هم خارج المتن الأدبي بأن يتهافتوا حوله.. لذا فإن المتلقي ليس معياراً على تعزيز مكانة النص وإبراز قيمته.