جورج طرابيشي ومنهجه النفسي

ثقافة 2022/04/23
...

 د. علي حسن هذيلي
  في كتابه المهم "الروائي وبطله، مقاربة اللاشعور في الرواية العربية"، يجهد الناقد جورج طرابيشي نفسه كثيراً لإثبات ألا علاقة بين بطل الرواية والروائي نفسه، ربما لأنه أراد أن ينقذ التحليل النفسي مما أوقع نفسه فيه: ترك النص والانشغال بما هو خارجه. يقول طرابيشي: "ومن هنا نرانا مضطرين إلى التسليم، ولو بضرب من المصادرة، بأن لا شعور البطل الروائي مستقلا عن لا شعور الروائي، فالبطل ليس نسخة طبق الأصل عن الروائي، وما من شيء يقتل الحياة في البطل الروائي كالآليّة، ولهذا لا يمكن تصوره بحال من الأحوال تابعا لخالقه تبعيّة "روبوتيّة"، سواء في شعوره أو لا شعوره" (الروائي وبطله: 7).
 وهو كما ترى جهد مصحوب بمصادرة يرى طرابيشي أنّه مضطرٌ إليها، لتحقيق ذلك القدر من الانفصال، لا سيما أنَّ التحليل النفسي، أو مقاربة اللاشعور، الذي يعتمده طرابيشي في تحليل النصوص يتبنى تلك العلاقة من دون أنْ يثبتها، لأنها، من وجهة نظره، من البديهيات التي لا تحتاج إلى إثبات، وعلى فرض أنَّ الروائي استطاع، بقدرة قادر، أنْ يضع بينه وبين بطله حاجزاً، فإنَّ مسامات ذلك الحاجز لا بدّ أنْ تستقبل نفحات الروائي، أو شيئاً من حيواته. هذا الشيء، وإنْ بدا صغيراً وتافهاً، سيكون كافيا للمحلل النفسي في مقاربة لاشعور الروائي عبر بطله، ومن ثمَّ فإنَّ دراسة البطل إنْ هي إلا دراسة للروائي نفسه. 
   طبعا كل ذلك من وجهة نظر المنهج النفسي، أما لماذا يفعل المنهج النفسي ذلك، فلأنه مؤمن بأنَّ الروائي إنّما يكتب نفسه، ويرسم وجهه، وأنَّ كثيراً من الأعمال الإبداعيّة لا يمكن حل لغزها أو الكشف عن دلالتها البعيدة إلا عبر معرفتنا بحياة مؤلفها، ولعل أعمال كافكا الروائية ستكون مثالاً ممتازاً للقراءة النفسية التي تبدأ بالنص وتنتهي بالمؤلف. 
   أما نحن فنكاد نختلف مع الاثنين- طرابيشي والمنهج النفسي- لأنَّ النص ذاته هو الذي يقرر ذلك، أي علاقة الروائي ببطله، أما أنْ نقرر مسبقا بوجود تلك العلاقة، كما يفعل المنهج النفسي، أو بعدم وجودها، كما يفعل طرابيشي، فذلك هو مشكل الدراسات التي قاربت النصوص الإبداعية نفسياً، فكان الفشل مصيرها، والسبب بسيط جدا: إنها لا تبدأ من النص، بل من فرضياتها السابقة على النص، ومن ثم تصبح القراءة أيديولوجية، وهذه الأخيرة، كما هو معروف، لا تقرأ النصوص، بقدر ما تبشّر بنفسها وتحتفي بمرجعياتها.
 وقد علل طرابيشي ذلك الانتقال من المؤلف الى البطل بالمسار الذي ألزم نفسه به، فنقطة وصولنا، يقول طرابيشي "هي النقد الأدبي، وليس التحليل النفسي الذي بين أيدينا إلا أداة منهجية تُوَظَّف كشوفُها في خدمة النقد الأدبي" (ينظر: الروائي وبطله: 8).
  وهذا يعني أنَّ التحليل النفسي للبطل، من وجهة نظر طرابيشي، هو نقد أدبي، أما التحليل النفسي للمؤلف عبر البطل، فهو ليس كذلك. وهي قسمة ضيزى، لم يقل بها أحد، كما انه لا يقبلها عاقل، إذ ما المائز بين تحليل البطل الروائي، وبين تحليل صانع ذلك البطل؟ إذا كان الفعل هو هو، والدافع هو هو، ؟ وحتى على فرض اختلافهما، فإنَّ الدافع هو الذي سيختلف لا طبيعة التحليل. فالتحليل النفسي، أساسا، هو بحث في دوافع الفعل البشري: لماذا نقرأ؟ لماذا نكتب؟ لماذا نُحِب؟ لماذا نكره؟؟ لماذا نسرق؟ لماذا نكذب؟ لماذا نظلم؟ لماذا نقتل؟ لماذا تجني المال... فوراء كل فعل سبب ما. ولا شك أنَّ معرفة السبب ستكون ضرورية، للاستمرار في الفعل أو الكف عنه. ووظيفة التحليل النفسي هي الوصول إلى ذلك السبب، لذا فقد قدّم علماء النفس أسبابهم، وأغنوا بحوثهم بتنوع تلك الأسباب، ولكن المشكلة تكمن في أحادية السبب الذي يقدمه هذا المحلل أو ذاك، ففرويد، مثلا، يتحدث عن كبت ودوافع جنسية وأحلام، وإدلر يتحدث عن شعور بالنقص، ويونك يتحدث عن سلوك جمعي يقلد فيه الناس بعضهم، ويستحيلون إلى كائنات غير عاقلة لا تفكّر ولا تدبّر، ونحن ندّعي أنَّ الحديث عن دافع واحد هو ضرب من الفقر المعرفي، فضلاً عن أنه يجعل الحديث عن الأسباب والدوافع جاهزا، ومن ثم يفقد التحليل مسوغاته، طالما أن الدافع واحد لا شريك له. 
عموما فالخروج من طوق التحليل النفسي لا يكون بترك المؤلف، والانشغال بالبطل، لأن البطل كائن ورقي، أو هكذا يبدو الامر، المؤلف هو الذي صنعه، وأنطقه، وألبسه، ولم يكتفِ بذلك، بل نفخ الحياة في الشخصيات الأخرى التي تحيط به، ولكن نفخ الحياة، في هذا الكائن، شيء، وتبنّي أفكاره، ومشاعره، وأوهامه، وأحلامه شيء آخر، يتطلب غوراً في النص، وحفراً في طبقاته، فإنْ عجز المحلل عن الوصول الى حقيقة الفعل الصادر من البطل اتجه إلى المؤلف. ومن ثم، فإنَّ العودة إلى المؤلف هي عودة اضطرارية. نعم هناك من أوجبها، وقرأ النص عبرها، كما فعل محمد النويهي في تحليله نفسية أبي نواس (ينظر: نفسية أبي نواس)، ولكن هؤلاء ليسوا حجة، كما أن فعلهم لا يمت إلى النقد الأدبي بصلة، كل ما هناك انهم انساقوا إلى هذه الطريقة بالتحليل، لأنها فرضت نفسها في وقت ما، وربما تركوها بمجرد أنْ فرض منهجٌ آخر نفسه، لا سيما أننا، في العالم العربي، إنما تُفْرَض علينا المناهج فرضا، إذ انها لا تنبع من هذه الأرض التي نقف عليها، بل تأتي معلبةً من الخارج، بكل ما يحمل، هذا الخارج، من فلسفات، ورؤى، وتوجهات، وايديولوجيات.