عزلة الكاتب في زمن واتساب: العلاج بالتدوين

ثقافة 2022/04/23
...

  علي محمود خضير
اختصر صديقي، جوابه عن سؤالي عبر الواتساب، مستفسراً عن أخباره، بكلمتين: "العزلة حلوة!". صادف وقتها قراءتي لكتاب بول أوستر “report from the interior”  -لا أعرف إن كان قد ترجم للعربية- وهو تأمّل ذهني مشفوع بتجليات العزلة والذاكرة عن شخص "قضى أفضل أوقات حياته وحيداً في غرفة". وأوستر من أفضل الخيارات المتاحة للقارئ حين يفكرُ بكتابة تستقصي الهوية واغتراب الأنا في ظل عالم تعلي فيه رمزية الحضارة جداراً عالياً مع النظام الطبيعي للعالم بتعبير هنري ديفيد تورو.
 
بحثتُ في سرّي، بعد جواب الصديق المنعزل، عن معنى العزلة وقد بات المرء على تواصل مع العالم كله حرفياً، 24 ساعة في اليوم، بفضل الانترنت! كيف يظلُّ المرء معزولاً وهو متاحٌ بيسر على (واتساب) و(فيسبوك ماسنجر) و(تويتر) وأخوته. عزلتنا اليوم يفضحها حيوان معدني صغير يهتز في جيب المنعزلين!.
يكرّس أوستر كتابه للإضاءة على حنايا ذهنه كما تستعيدها 
الطفولة. 
ويمكن عدّ الكتاب تاريخاً لتطور المؤلّف النفسي، حيث "حكاية الشتاء" تاريخ لتطور جسد الكاتب.
الطفولة هنا هي البطل المطلق. وبالقدر الذي توحي فيه الأحداث بأنَّ الكاتب قد عاش طفولة ثريَّة بالوقائع والاختلاط، فإنَّك تخرج بانطباع حاسم بأن الحقيقة الوحيدة هي عزلة الكائن البشري في عالم يجاهد ليبدو متماسكاً. 
بالأخص في فصله الأول حين يستعرض أوستر بأريحيَّة هواجس الطفل الذي يرى النجوم ألغازاً، والمقص كائناً يمشي، والتلفاز ابن عم لأبريق الشاي! أو حين يرى نفسه ذاتها محض "حبَّة بَقول بشريَّة".
لا يمكن لطفل يكتب قصيدته الأولى بعمر التاسعة إلّا أن يكون منعزلاً بما يكفي وإن بدا صخب التجارب الاجتماعية المدرسيّة يدحض ذلك ظاهرياً. ظلال من حرب كوريا، وأخرى عن شعوره بالإذلال من نوبات تبول لا إرادي، وثالثة عن تبلور شخصيته قبيل البلوغ عبر هوسه بالسينما مستعرضاً فيلمي: “The Incredible Shrinking Man,و “I Am a Fugitive From a Chain Gang"، والسينما، للمفارقة، قاعة جماعية يجلس فيها الحضور معزولين وإن بدوا حشداً.
أفكّر في كُتّابنا الذين عاشوا أسطورة العزلة الفريدة: محمود البريكان، حسب الشيخ جعفر، رشدي العامل، عبد الرحمن طهمازي، وآخرين، وكم خسرنا بعزوفهم عن تدوين خبرات حياتهم المبكرة، والتجارب التي صنعت منهم النتاج الذي انتهوا إليه. 
ليس الكتّاب المشاهير فحسب، بل حتى أولاء الذين يعتقدون أنفسهم عاديين، ولا ميزة لحياتهم تستحق أن تروى. عامة الناس ممن لا يجدون في ذواتهم ندرة واستثناءً؛ إنَّهم يستحقون تماماً فرصة أن يدوّنوا حياتهم، ولو مرّة، ولهذا السبب تحديداً. 
ذلك الشعور المخيف بالمجهولية والاندثار الوشيك هو ما يجعلنا منسحبين إلى ذواتنا، مندفعين إلى التواصل، في آن. عزلة مقنعة تأكلنا نغطيها بتواصلنا الكذوب على منصاتنا الرقمية. هذا الاغتراب والمجهوليّة مرعبة لأنها وقود كل نزعة عنفيَّة، وعدم مكاشفتها بالكتابة تضيّع علينا فرصة استيعابها، وميزة أن تكون المدوّنات تلك تاريخاً (من الداخل) للذات العراقية.
الداخل الذي هو القرين لعزلتنا، الحقيقة الوحيدة المؤكدة للكائن في حياته الأرضية. الداخل الذي نهرب إليه من كل ما يخترق صفاء لحظتنا النادرة، المبددة بلا شفقة على مذبح التواصل الشبكي التكنولوجي اللا نهائي. 
في الفصل الأخير من كتاب " report from the interior"، يورد أوستر رسالة إلى حبيبته/زوجته لاحقاً، ليديا ديفيس: "بالنسبة لي، مشكلة العالم هي أولاً وقبل كل شيء مشكلة ذاتية، ولا يمكن تحقيق الحل إلا من خلال البدء من الداخل".