محمد الكاظم ومفرداته السردية

ثقافة 2022/04/23
...

 د. هادي شعلان البطحاوي
تخبرنا أعمال القاص محمد الكاظم أنها نتاج جهد صارم يحمل على أكتافه المسؤولية الفنية للمرحلة التي تعالجها نصوصه، مثلما يحمل هموم اللحظة وخيبات إنسانها الذي يواجه تجارب سيزيفية مستمرة. المتابع لأعمال الكاظم ومجموعاته التي صدرت خلال ما يربو على العقدين يجدها تحمل موضوعات محورية تدخلها كل مرة من نافذة مختلفة، وهذا ما جعلها لا تكرر ما تقوله.
 
فأعماله تركز دائماً على الإنسان العراقي المثقل بالفقر والخيبات والانكسار، وتتحرّك شخصياته في دائرة الفقراء والمحرومين الذين عاشوا تجارب الحروب واللحظات القاسية التي مرّت بها البلاد، وأهمية هذا الأمر لا تكمن في أن تلك القصص تحدد انتماءها الطبقي بقدر ما تلتزم منظورها وتحكي قصتها بتقصي كل ما يتصل بهذه الفئة الإنسانية من موقع الفاعل الاجتماعي والوعي المعرفي، لذلك تبتعد قصة محمد الكاظم بقدر واضح عن النمط السائد في التشخيص الشائع في أدبنا العربي وتصر على مواصلة السير في رسم معالم هذه الطبقة المنهكة التي تشكل أرضية المجتمع العراقي وشريحته الأوسع المسؤولة عن أي تغييرات في بنية السلطة لا في شكلها. 
الشخصية التي تقدمها هذه القصص هي شخصية الرجل العادي المألوف الملامح الذي يطالعنا عشرات المرات يومياً في سيارة الأجرة والمقهى والبقالة والدائرة الحكومية وغير ذلك. لا يوجد في إنسانها شيء مميز، وليست له سحنة مختلفة، كما أنه في الغالب غير وسيم ولا يملك قدرات استثنائية، وفوق كل ذلك ليست له أحلام بعيدة، إذ لا يأمل بأبعد من حياة بسيطة عادية، لكنه لا يحصل عليها، فالأقدار السياسية تدفعه بعيداً نحو نهايات دراماتيكية بائسة.
شخصيات محمد الكاظم القصصية تشبه ملامح العراقي الكادح الذي أنهكته الحياة بلا إضافات تزويقية يضيفها الكتاب في العادة ليعبروا فيها عما يعتمل في داخلهم فيكشفون بسهولة عن علاقتهم بشخصياتهم، فلم يحرص الكاتب في كتاباته على ملامح البطل المثقف كما هو شائع في أدبنا، ولم تكن هموم المثقف هموماً يومية لشخصياته وهي تكابد عناء الحياة اليومية، لكن هناك رسائل تكتشف عن مستوى باطني من الوعي يتواطأ عليه الكاتب مع قارئه فيصبح القارئ هو منتج الرسائل لا الشخصية السردية، من هنا نستطيع القول إن الشخصية القصصية عند محمد الكاظم تأخذ مسافة كافية عن شخص الكاتب وليست صدى له، كما أنه لم يحمّلها أفكاره ويجعلها ناطقة بلسانه، إنما كانت شخصيات ناطقة بوعيها الشخصي وتتحرّك بأفقها الخاص، ولا تحمل وعياً زائفاً مفروضاً عليها. وهذا ما يمنحنا شخصيات حقيقية أصيلة يمكن ان نصدقها، ونميز بينها وبين الكثير من النماذج السردية التي لا تنجو من اختبار التلقي الفاحص.
يأخذ التجريب مديات بعيدة في تجربة محمد الكاظم، كما أنه يمتد الى مساحات قد تمثل أفقاً جديداً فيه. ليس هناك شكل محدد تعمل قصته على تطويره، وإنما هناك محاولات مختلفة مستمرة، حتى ليمكن القول إن لكل قصة طموحها ومغامرتها، وإنها تسلط ضوءاً يختلف عن المجال الذي يستحوذه اهتمام قصة أخرى، ما يجعلنا أمام مختبر سردي حافل بتجربة دؤوبة ثرية متنوعة.
ومما يمكن ملاحظته في عدد من المجموعات القصصية للكاتب هو حضور هاجس التجديد في كثير من الأشكال والمضامين التي تسعى نحو توسيع الأفق الجمالي والدلالي للقصة القصيرة، فهي تنطلق من قناعة مفادها: أن القصة القصيرة محدودة مكانياً – إذا صح الوصف – فهي تشغل مساحة نصية محدودة قياساً بأشكال سردية أخرى كالرواية مثلاً. هذه المحدودية قد تكون ذات أثر ضاغط على جماليات القصة وممكناتها الفنية إن لم تعمد الى الابتكار ضمن هذه الحدود المتاحة، وهذا يعني أنها أمام تحدٍ لمدى غير مفتوح بسبب قيود النص، يبدو هذا همّاً حقيقياً عند محمد الكاظم الذي يجتهد أحياناً في استثمار حتى مساحة الورق وحدوده وتقطيعها بالشكل الذي يدخل الورقة نفسها في شكل القصة، ويحول الى الشكل الى خطاب، كأننا أمام أزمة موارد تدفع نحو ابتكارٍ يوظف ما لم يوظف من قبل، قصة (المتناثرون) مثلا في مجموعة (لا تقولي لأمي أن مير لم يصل) تبتكر شكلها الذي يستثمر مساحة الورقة أيما استثمار، إذ تتحول صفحة الورق الى زقاق تلتقي عنده حيوات عدد من الشخصيات المختلفة، لكل شخصية كيانها وماضيها، كما أن لكل منها مساحتها الخاصة أو المساحة التي تحفظ لها خصوصيتها على وجه الصفحة/ الزقاق. تتعايش الشخصيات ولا تتداخل رغم المساحات الضيقة التي تنتشر عليها، لكن الأقدار تطيح بتلك الحدود وتصهر الجميع لحظة الانفجار الذي يحصل ليطيح بكل تلك الحيوات.
(المتناثرون) نص أكثر اختزالاً وتطوراً في أدائه السيميائي الذي استثمر أدوات مختلفة لتقول القصة ما تريد أن تقوله عبر الصمت والكلام المحذوف الذي شغل عشر صفحات بيضاء فارغة تماماً، ليلمح للنهاية التي انتهت إليها تلك المجموعة البشرية التي كان لكل من أفرادها حياة مختلفة وهدف مختلف إلا أن نهايتها كانت نهاية فجائعية واحدة هي الموت الذي حوّل السرد الى 
صرخة. هناك شيء من هذا الاشتغال على الشكل نجده في تجارب أخرى سابقة أيضاً ضمن وتحديداً في قصة (kia) وقصة (الموتى يخطئون أحيانا) وغيرها. 
للتجربة البصرية أثرها في التجريب هي الأخرى، فالقصة ليست مجرد كلمات تنتظم بشكل أفقي لتكون الوحدات التي تتشكل منها. تقدم قصة (لا تقولي لأمي ان مير لم يصل) الشريط الإخباري الذي تبثه القنوات الفضائية، وكذلك صفحة البريد الالكتروني والرسائل النصية، فضلا عن نشرات الأخبار التي تقطع السرد القصصي بين حين وآخر بشكل يتيح توظيف المؤثرات البصرية في القصة القصيرة.
إنَّ الواقع الذي تحكيه القصة لم يعد ذلك العالم الخطي الذي يمشي بانتظام ووضوح، إنما هو عالم التعقيد والتداخل، إذ لم تعد فيه الأشياء إما بيضاء وإما سوداء، إنه عالم رمادي لا تتميز فيه الحدود بوضوح كافٍ، نجد مثيلا لهذا العالم في العمل الفني الذي يحكي بأدواته ذلك التداخل والتعقيد، في ضوء هذا يمكن أن نفهم توظيف المؤثرات البصرية في القصة عبر تجارب سردية تمثل محاولة جادة لفهم الواقع والاستعانة بأدواته التي صارت جزءا رئيساً منه، لتحضر في النص بنفسها لا من خلال معادلها السردي.