مراسلات (باروخ سبينوزا)

ثقافة 2022/04/25
...

  ترجمة وتقديم وتعليق د. باسل الزين
لا يُشبه الحديثُ عن (سبينوزا) الحديثَ عن أيّ فيلسوف آخر، ليس بالنّظر إلى سعة اطلاعه، وعمق معرفته فحسب، بل كذلك بالنّسبة إلى جرأته، وحبّه الحقيقة، وسعيه الحثيث إلى تخليص العقل من الأوهام، والخرافات، والأضاليل والترّهات. 
وليس أدلّ على صحّة ما قلناه من الاستدلال بقراءة مراسلاته - التي سنفرد لها قراءة موجزة- والوقوف على مندرجات أفكاره من خلال قراءتين متميّزتين للبروفيسور (مشير باسيل عون) والبروفيسور (جوزيف معلوف) بوصفهما قراءتين عربيّتين تغوصان في صميم فلسفته، وتقبضان على أبرز ملامحها، وسماتها. 
وبعد، شُغِفَ (سبينوزا) بــ (ديكارت). إنّه أوّل فيلسوف كبير يَتبنّى نَهْجَه العقلانيّ المطبوع بعلم الرياضيّات، مصدر كلّ معرفة حسيّة ومُجرّدة. فهو يرفُضُ أيّ تدخّل لا يَركَن إلى عقل الإنسان في تحقيق مصيره، إذ بوسعه أن يَكتسب سعادتَه وخلاصَه من خلال العقل فحسب، كما بدا واضحًا لدى طبقة المثقّفين في القرن السابع عشر. هذا الفكر العقلانيّ المتنامي بخُطى سريعة آنذاك كان في أصل النِزاع الذي حَصَلَ بين العقلانيّة والدين. فالخلاص الذي يستحوذ على فكر الإنسان ليس وقفًا على الدين وحدَه، إذ بوسع الإنسان أن يَصنع خلاصَه، وأن يَبلغ أقصى مرحلة من الفرح والسعادة عن طريق المعرفة العقليّة، وأن يَبنِي أنظومة جديدة عن الله من صُنْع عقله الرياضيّ، تُضاهي أنظومة الديانات متانةً وجَمالًا.
هكذا بدأ (سبينوزا) مسيرتَه الفكريّة بقُرْب مدينة (ليده) (Leyde) الهولنديّة. انقطع عن العالم ما خلا عن بعض أصدقائه المقرّبين إليه، الذين سَئموا مثلَه، التّزمّتَ الكلفينيّ الذي حَلّ بِهولندا، والامتثاليّةَ الكاثوليكيّة، والتقوقُعَ اليهوديّ المتشنّج والخائف من ضياع تُراثه وتَقليده في أوروبا المسيحيّة. هناك في (ليده)، وهو يُلمّع زجاجات النظّارات، أطلّ على العالم بِهندسة جديدة لمفهوم الله، تقوم على التأمّل الفكريّ، اعتبرها مصدرَ خلاص الإنسان وسعادته.
 
1) (سبينوزا) والكتاب المقدّس
بدأ (سبينوزا) أوّلَ عمليّة تَنقية لفكره، بعد أن تَشبّع من المنهج الديكارتيّ، بإخضاع الكتاب المقدّس لقراءة نَقديّة وتفكيكيّة شاملة، مرجِعها العقل، هي الأولى من نوعهـا في التفسير الكتابيّ الحديث، إذ أحدث كتابُه، بحثٌ في اللاّهوت والسياسة، مُنعطفًا جديدًا في علاقة القارئ بالنصّ الدينيّ. فقد كان همّه التخلّص من الخرافات التي تُعد نُواةَ التفسير العقليّ والتاريخيّ لنصّ الكتاب المقدّس، يقول: "إنّ القاعدة العامّة التي ينبغي لنا اتّباعها في تفسير الكتاب المقدّس تَقودنا إلى عدم التسليم بأيّ تعليم لا يَنسجم مع التحقيق التاريخيّ"
الحقّ أنّ (سبينوزا) بات رَيبيًّا إزاء مضمون مجموعة كبيرة من النصوص الكتابيّة التي تَكثر فيها الحكايات والروايات الملحميّة والعجائبيّة، إذ إنّ تربيتَه العقليّة تأبى أن تُصدِّق على كلّ ما ورد في هذه النصوص بطريقة حرفيّة. ومع ذلك، لم يُحدِث واقعُ الكتاب المقدّس في داخله صَدْمَة كبيرة، مثل ما أحدثت فيه طريقة استغلال هذا الكتاب من أجل منافع شخصيّة، إذ كان مهيّئًا فكريًّا للقيام بِهذا النوع من النقد. فالخلاص الذي يُشير إليه الكتاب المقدّس بات، في رأيه، مستحيلًا، ما لم يتنازلِ الإنسانُ عن حريّته وعقلِه وإرادتِه ويُودعها رهينةَ طبقة مُعيّنة، كي يَحصل على السعادة المنشودة. وهذا ما لم يَقْبلْه (سبينوزا) في حياته، إذ لماذا يجب على الإنسان أن يُضحّي بِهذه القيم الكبرى كي يَخلُص؟ 
ومع أنّه استعار عبارة حبّ الله وحبّ القريب من الكتاب المقدّس، إلاّ أنّه حاول أن يُبيّن بأسلوب لا يَخلو من ردّة الفعل الباطنيّة، أنّ الإنسان إذا استخدم عقلَه عن فهْم ودراية، يَستطيع أن يَبلغَ السعادة وأن يَنعم بالخلاص الذي يَنشُده، أي حبّ الله. فالخلاص لم يَعُدْ خلاصًا من العبوديّة، عبوديّة الشعب العبرانيّ أو عبوديّة الخطيئة، بل هو خلاص من الجهل والوهْم والظلاميّة. والخلاص لا يعني التخلّص من هشاشة الوضع الإنسانيّ، بل العمل على الدنوّ من الله من خلال اتّباع قوى العقل والقوى الداخليّة الساعيّة إلى التعبير عن ذاتِها في الوجود. وهو بذلك، مع (ديكارت)، هيّأ مَجيء عصر الأنوار في أوروبا؛ وكأنّه يَنطق باسم (كانط) في كتاب هذا الأخير، ما معنى عصر الأنوار؟ يقول (سبينوزا): "يجب أن تُقرّوا بالعقل الذي منحنا إياه الله، وأن تُسهموا في تنميته، إذا أردتم ألّا تكونوا من عداد المتوحشّين". فلا عجب من أن يُنعَت بالملحد والخارج عن إطار الدِّين. ذلك أنّ الإله الذي بدأت ملامَحه تَظهر في أكثر من موضع، يختلف تَمامًا عن إله اليهود والمسيحيّين.
 
2) أنظومة الله في كتاب "الأخلاق" 
بعد أن فَرَغ (سبينوزا) من تحرير الكتاب المقدّس من بعض الأوهام السائدة في عصره، راح يُفتّش عن هندسة للكون تنبع من عُمْق الرياضيّات، كي يُبرهن، على غرار (ديكارت)، ولو بطريقة مغايرة، أنّه بإمكان العقل الإنسانيّ أن يُعبِّر عن وجود الله من دون العودة إلى الوحي (أنظر براهين وجود الله في كتاب ديكارت، تأمّلات ميتافيزيقيّة). فكتاب الأخلاق الذي يَنطلق من تحديدات ومُسلّمات وبراهين واستنتاجات وغيرها؛ ليس سوى استخدامِ النَسَق العقليّ المبنيّ على علم الرياضيّات، الذي يَستطيع أن يَقولَ ما يُقولُه الدين، ولكن بلغة مُختلفة، من دون العودة إلى قوّة تَخْترق حجاب الزمان والمكان. 
على غرار الإغريق (ولاسيّما فيثاغورس وأوقليدس وديكارت)، شرع (سبينوزا) في مطلع كتاب الأخلاق في بناء أنظومة "ماورائيّة" جديدة، تستمدّ بنيتَها كلَّها من الافتراضات والمسلمّات الهندسيّة. هناك جوهر يَحوي كلَّ شيء في ذاته، إذ هو كائن سرمديّ ومصدرُ كلّ شيء. هذا الجوهر أو الكائن هو الله نفسه. أمّا الطبيعة فهي تتماثل مع الله أو الجوهر. وبتعبير أوضـح: هناك وحدة متينة بينهما. يقول: "الله أي الطبيعة" (Deus sive Natura). هذا يعني أنّ الله في الطبيعة وأنّهما لا ينفصلان. فالله ليس وَحدةً مستقلّة كما في الديانات التوحيديّة، إذ يَتغلغل في كلّ عنصر من عناصر الكون، وهذا ما يُسَمّيه البعض الحلوليّة، ولو أنّ التسمية لا تَفي تَمامًا بما كان يَقصُد به (سبينوزا). 
في هذا السياق، يميز (سبينوزا) "الطبيعة الطابعة (natura naturans) من الطبيعة المطبوعة (natura naturata)، إذ تحتوي الأولى على الجوهر والصفات، في حين أن الثانية تشتمل على كثرة لا متناهية من الأحوال التي هي بمنزلة التحولات التي تصيب الجوهر والتي يستثيرها الله عيِّنَه في صميم ذاته، ذلك بأن الأحوال طرق ينتهجها الجوهر في الوجود تدرك تحت أعراض كل صفة من صفاته، فالكائن الإنساني جسد، أي حال من أحوال صفة الامتداد، وروح عاقل، أي حال من أحوال الفكر، ولكنه أيضًا في نظر العقل اللامتناهي أمر آخر يعجز عن تصوره العقل المحدود المتناهي".
هذه التعابير الثلاثة: الجوهر، الله، والطبيعة، هي أساس أنظومتِه "الميتافيزيقيّة". أين موقعُ الإنسان في هذه الأنظومة؟ لم يَعد الإنسان حالةً فريدة مستقلّة، كما كان سائدًا في التراث اللاهوتيّ والفلسفيّ؛ فهو ليس سوى جزء من الطبيعة فحسب، أو الوجه المرئيّ للجوهر (أو الله). يَتجلّى الإنسان في صِفَتَين: الجسد الذي هو جزء صغير من الامتـداد اللامتناهي، والنفس التي هي أيضًا جزء صغير من الفكر اللامتناهي (على اعتبار أنّ الله لا يُمكن التعبير عنه إلا من خلال عدد لا يُحصى من الصفـات المرئيّة، والتي لا نعرف منها إلّا اثنتين، الامتداد (étendue) والفكر  (pensée).
وبعد، "إذا كان اصطلاح الله يدل على الطبيعة اللامتناهية، فإنَّ اسمه الحق هو الجوهر الذي يشير إلى قوام الكائنات وشرطها الأثبت والأرسخ، أما الجوهر فإنه من صلب ذاته واحد وحيد، علة نفسه، يقوم بذاته من غير سند خارجي، ويعي نفسه وعيًا مباشرًا. إنه ماهية الأشياء في صلب كينونتها. ليس في هذا التصور أي فيض تلقائي يذكرنا بنظرية أفلوطين، بل إقرار بصفات الله اللامتناهية ملتصقة التصاقًا راسخًا بجوهره الصمدي. بفضل حرية الله المطلقة لا يكف الجوهر الإلهي هذا عن الخلق اللامحدود الذي منه تنبثق جميع ضروب الموجودات، شرط أن تظل ملتصقة به من غير أن تخرج منه وتنفصل عنه في عالم دوني، ومن ثم فإنَّ الصفات المنعقدة في الجوهر الإلهي تتمتع بالضرورة الكيانية عينها، إذ تنبثق وتعتلن وتتحقق في سياق انبساط حتمي يجعلها تفصح عن غنى الجوهر إفصاحًا متنوع الدلالات. وحده الإدراك البشري الناقص يعاين التناقض بين الجوهر الإلهي والصفات المعتلنة، ويرتبك بالاحتمال الجائز الذي يتحرى عنه في شأن هذه الصفة أو تلك".
 
3) تَحرّر الإنسان الحقيقيّ    
ويصبو الإنسان ككلّ كائن في الطبيعة إلى أن يَزيدَ من قُدرته، وأن يَستمرَّ في ما يُملي عليه كيانُه (conatus)، كي يكون قريبًا من الله، مصدرِ الفرح والسعادة. إلاّ أنّ الإنسانَ كائنٌ ضعيف يَرزح تحت نير الجهل والعبوديّة. فكيف يُمكنه أن يَتخلّصَ من هذا الواقع الذي "يُثير الشفقة"، كما يقول (سبينوزا)، ويبلغَ أفق الحريّة؟
ولكي نَفْهَمَ مسيرة التحرّر في فكر (سبينوزا)، لا بدَّ لنا من طرح السؤال الآتي: ماذا يَقصد بالضبّط بعنوان كتابه الأساسيّ، الأخلاق؟ ذلك أنّ الحريّة في أنظومته "الماورائيّة" لا تَعرف الاختيـار، لأنّ الإنسان يَخضع لحتميّة شديدة، ومن ثم، ليس بمقدور الأخلاق أن تَتَحوّل إلى علم عَمَليّ، أي إلى قواعدَ يَستطيع الإنسان أن يختارها بحريّة ليبلغَ هدفها. الأخلاق علم نظريّ يهدف إلى تفسير كيفيّة التوصّل إلى سعادة الإنسان، من دون تحديد الوسائل التي تُساعده على بلوغ هذه السعادة. 
هناك ثلاثة أنواع من الحياة تتطابق مع مستويات المعرفة الثلاث عند (سبينوزا):
الإنسان عَبْدُ أهوائه، لأنّ أفكاره غير مُنسجمة مع الواقع. الميول الكامنة فيه لا تُحصى، إلّا أنّ هناك ميلًا يسمو على الجميع: الجهد (conatus). كلّ كائن يملك في ذاته هذا الميل الذي يَشدّه إلى المثابرة في ما يملي عليه كيانه، كي يحافظ على استمراريّته. قوّة (سبينوزا) في هذه المسألة هي احترام الميل الذي فينا وعدمُ احتقارِه أو ربطِه بالشر والخطيئة. يقول: "كلّ من يعمل على توجيه ميوله من أجل حبّه للحريّة، لا يَجتهد في التشديد على عيوب الناس، ولا يُندِّد بالإنسانيّة، ولا يَفرح بالمظهر الزائف للحريّة"، إنّ إذلال الإنسانيّة التي فينا لا يقود إلى التحرّر. لذا، لا بُدّ من تصحيح نظرتنا إلى الميول التي فينا. فإذا لم يكن "الإنسان إمبراطوريّة ضمن إمبراطوريّة"، أي إذا لم يكن حُرًّا في عالم حرّ، فعليه، والحالة هذه، أن يَتَخلّص من مفهوم الحريّة المطلقة التي تغنّى بِها بعض الفلاسفة، وأن يُوجّه جهدَه كلَّه في حركة تحرّريّة، ذلك أنّ الحريّة تُكتسب من خلال المعرفة، أي من خلال التماهي مع الله. الحكيم الذي يتماهى مع الله لا يخضع للأحداث رُغمًا عنه، بل يقبلُها برضاه، على غرار الرواقيّين الذين اعتبروا أنّ الحريّة لا تأتي من الخارج بل من التأمّل في القوى العقليّة المرتبطة بداخل الإنسان.
 الحريّة، في مفهوم (سبينوزا)، لا تستند إلى إرادة لا محدودة، إنّها تستند إلى المعرفة الناجمة عن الإنسان الذي عَرَف أن يَسير في ما يُملي عليه كيانه، أي الذي اكتشف الدرب الذي يقود إلى السعادة (الحريّة عند (سبينوزا) تتطابق مع المستوى الثاني من المعرفة، أي المعرفة التي تقوم على البرهان وما ينجم عنه من نماذج رياضيّة). فالجاهل الذي لا يعرف الحريّة في حياته هو الذي يَجهل تحديد طبيعة ميله الحقيقيّ ويسير وراء أشياء تُلحِق الأذى به (وهو يتطابق مع المستوى الأوّل من المعرفة عند (سبينوزا)، أي مع كلّ ما هو غامض ومبعثر وخياليّ)؛ أما الحكيم فهو يعرف تَمامًا حقيقة طبيعته، ممّا يمكنه من السير نحو السعادة.
الجهْل عدوّ الإنسان الأوّل، والأهواء حينما تُحكِم سيطرتَها على العقل تَزيدُه جهلًا وعبوديّة. يبقى على الإنسان أن يَعمل على ترقية عقله كي يرتفع فوق المظاهر الخدّاعة، ويَتخلّصَ من ذاته الضيّقة المحدودة، ويكتسبَ المعرفة الصحيحة، كيما يَتمكّن من حبّ الله مصدرِ كلّ فرح وسعادة.
 
4) حبّ الله من خلال العقل (Amor intellectualis Dei)
المعرفة تُبدِّل الأهواء وتُحوّل الميل الكبير، الذي هو طاقة الإنسان الكبرى، إلى نشاط وحيويّة، فيَجعلان من الإنسان كائنًا يتقدّم بخطى ثابتة نحو الحريّة. ذلك أنّ (سبينوزا) يدعو الإنسان إلى التحرّر من رواسب الأخلاق التقليديّة التي كانت تُشيد بالخوف والألم والحزن والزُهد السلبيّ. أما هو فكان يُنادي بالفرح والسعادة والغبطة. إنّه المستوى الثالث من المعرفة: الفرح والسعادة هما نتيجة منطقيّة لحبّ الله العقليّ. هذه هي إشكاليّة الكتاب. كلُّ ما وَرَد في الفصول الأولى منه، ليس سوى مقدِّمة لتفسير الفصل الخامس من كتاب الأخلاق.
المعرفة العقليّة، إذًا، تَبني الغبطة وتدعمُها. فإذا كان الله تلك الطبيعة التي يتّحِد بِها كلّ وعي إنسانيّ، وإذا كان يُسبِغ على الإنسان الفرح الأسمى، وإذا انطلقنا من قول (سبينوزا) نفسِه، بأنّ "الحبّ هو فرح تُواكِبه فكرة مُسبّبِه"، أي الله، يُمكننا أن نستحضر فكرة "حُبّ الله بواسطة العقل". 
الغبطة التي يتوق إليها هي هذا الحبّ العقليّ لله. هذا الحبّ هو، في الوقت عينه، حكمة صافية تَعي ضرورةَ الأشياء الشاملة؛ وسعادةً (Felix) نوعيّة تنبع من الحريّة المكتسبة من النُضج العقليّ ومن بلوغ الفرح الكامل.
عود على بدء، ما قيمة هذه المراسلات؟ وأيّ فائدة من نقلها إلى العربيّة؟ 
يُمكن اختصار قيمة هذه المراسلات في نقاط ثلاث:
أوّلًا: تعميق مفاهيم (سبينوزا)، وتسليط الضّوء على بعض المفاهيم الملتبسة، والغامضة. بعبارة أوضح، لا تضطلع هذه المراسلات بمهمّة كشف النّقاب عن فلسفة (سبينوزا)، وعرض مضامينها، وتفسير مبانيها فحسب، بل تضطلع كذلك بمهمّة الوقوف على المفاهيم المستعصية، والأفكار الملتبسة، والمفاهيم الغامضة. وعليه، تُطالعنا في هذا الكتاب أسماءُ أعلامٍ لها باعٌ طويل في المجال المعرفيّ، والتدبّر الفلسفيّ، والشّأن العلميّ. الحقّ أنّ قيمة مراسلات (سبينوزا) تكمن في ردوده على الأسئلة، والتوضيحات، والمناقشات، والانتقادات التي وجّهها له مجايلوه من فلاسفة، وعلماء، ومفكّرين. لقد تبيّنوا مواضع الالتباس في فلسفته، ووقفوا على بعض متناقضاتها، وقارعوا الحجّة بالحجّة، والبرهان بالبرهان، إلى حدّ يُمكن القول معه إنّ المراسلات هذه تُشكّل إضاءات لا غنى عنها لـ (سبينوزا) أوّلًا، ولقارئه ثانيًا، ذلك بأنّ النقد البنّاء يُتيح للفيلسوف فرصة إعادة صياغة ما التبس، وتوضيح ما احتجب من فلسفته.
ثانيًا: البيئة الثّقافيّة التي كانت سائدة آنذاك. الحقّ أنّها بيئة متناقضة، تجمع بين أُناسٍ متنوّرين يرومون الفهم والتقصّي، وأناسٍ أعماهم الجهل والتعصّب فراحوا ينتعونه بأبشع الصّفات، وأقذع النّعوت. وما بينهما، تحلّى (سبينوزا) برصانة فكريّة، وتدبّر منطقيّ، وهدوء فلسفيّ. فهو لم يتوانَ عن تفصيل الردود، وتوضيح الالتباسات، كما لم يتوانَ عن الترفّع عن الردّ، وفي أحسن الأحوال تبيان غيِّ منتقديه المتعصّبين، محاولًا ثنيهم عن كمّ أفواه الكلمة الحرّة، حاثًّا إيّاهم على إعمال العقل، وتقصّي الحقائق. 
ثالثًا: البعد المعرفيّ، وهو بعد على صلة وثيقة بالنّقطة الثّانية، إذ إنّه يكشف عن ولع الباحثين بالمعرفة، والوقوف على دقائق الأمور، وتفحّص المسائل تفحّصًا بصيرًا وعميقًا. 
عند هذا الحدّ نتساءل: أيّ فائدة تُرجى من نقل هذه الرّسائل إلى العربيّة؟ الحقّ أنّ الإجابة تظهر على مستويين اثنين:
المستوى الأوّل: الإضاءات التي توفّرها هذه المراسلات. تنشط في الفكر الغربيّ حاليًّا حركة ثقافيّة تعمد إلى وضع دليل خاصّ بفلسفة كلّ فيلسوف، دليل يشمل شرحًا تفصيليًّا لمصطلحاته، ولأبرز مفاهيمه، ناهيك بكونه يبرز نقاط الالتباس فيها، ويحاول أن يُذلّل الصّعوبات المتعلّقة بالمستعصيات منها على الفهم. تندرج مراسلات (سبينوزا) في هذا السّياق، إذ إنّها توفّر للقارئ العربيّ دليلًا خطّه (سبينوزا) نفسه، ومجايلوه الأكثر تفقّهًا وتعلّمًا. 
في هذا السّياق، من البديهيّ القول إنّ فلسفة (سبينوزا) عصيّة في بعض مواضعها على الفهم من جرّاء تعمّد الفيلسوف حجب بعض أفكاره، أو تمويهها بالنّظر إلى البيئة المتشدّدة التي كانت يحيا فيها– أشرنا إليها أعلاه– وخوفًا من مزيد من الاضطهاد. بهذا المعنى، تأتي هذه المراسلات، التي تعهّد أصحابها بالمحافظة على سريّتها، لتوضح ما احتجب، ولتكشف ما استتر.
المستوى الثّاني: حاجتنا في العالَم العربيّ إلى هذا النّوع من التّثافق، لا سيّما أنّ المراسلات لم تقتصر على أعلامٍ ينتمون إلى البلد نفسه. الواقع أنّ التّلاقح الفكريّ هو السّبيل الوحيد اليوم للخروج من قوقعتنا الفكريّة، والانفتاح على سائر الثّقافات انفتاحًا نقديًّا ورصينًا، يشحذ أذهاننا، ويدفعنا باتّجاه التّجديد الفكريّ، وتفعيل أدواتنا النقديّة التي صَدِئت.
بوجيز العبارة، لا يستقيم عود المعرفة إلّا بالانفتاح على الآخر، والاستفادة من تجاربه، وتبيّن مواطن قوّتها، والوقوف على مواضع ضعفها. 
قال الرّاحل الكبير (موسى وهبه): "الفيلسوف الوحيد الممكن بالعربيّة اليوم هو المترجِم"، إذ إنّه يُتيح الفرصة أمام القارئ العربيّ لكي ينهل من معين ثقافة لا تنضب، ويُضيف إليها من عنديّاته، قبل أن يتمكّن من بلورة مفاهيم إنسانيّة تراعي الاختلاف الحضاريّ، والبيئات الحاضنة".