{شحرور غلانمور} لهيني تداخل ثيمات الموت والحياة

ثقافة 2022/04/25
...

 محمد تركي النصار
 
تقدم لنا قصيدة (شحرور غلانمور) للشاعر شيموس هيني متحدثاً يتأمل رؤاه عن الحياة وتجاربه مع الموت والفقدان بكل ما يسببه ذلك من عذاب شخصي، من خلال مراقبته لطائر أسود يغدو مع تنامي أبيات القصيدة رمزاً لكل ما أحبه الشاعر ثم عانى لاحقاً من آلام فقدانه، إذ يراقب المتحدث هذا الطائر بحذر خشية من أن يفزعه فيطير.
 يمثل الطائر الحياة والموت في آنٍ معا، فمثلما يفر الطائر من أدنى حركة تخيفه، يرى الشاعر بأن الحياة تضيع بهذه السرعة والبساطة أيضاً.
يحب الشاعر هذا الطائر الأسود ويحن أيضاً للموت الذي يمثل بالنسبة له كل ما هو دائم ومحصّن بالآمان، في حين تمثل الحياة كل ما هو سهل الهروب ومحاط بالمجاهيل، وهنا تكمن المفارقة، إذ يضع الناس الموت والحياة في متقابلات متضادة من خلال ما يصفه الشاعر.  
ويبدو واضحاً من ثيمة القصيدة بأنَّ ما مرَّ به الشاعر من تجارب مؤلمة هو ما كرَّس بداخله هذا النمط من التفكير:
 على العشب عندما أصل،
 غامراً السكون بالحياة،
على اللبلاب، عندما أغادر،
يصل المتحدث إلى مكان ما ويرى الطائر الأسود على العشب، فيشارك تجاربه مع القراء باستخدام ضمير المتكلم جاعلاً منه موضوعاً شخصياً بشكل مباشر، وهو يصفه يملأ السكون بالحياة، فمن دونه تبدو المنطقة المحيطة خاوية، وبوجوده يشعر المتكلم بدبيب الحياة ينتشر في المكان المحيط.
     ثمة أمر جدير بالتوقف هنا وهو قلق الشاعر وخشيته من هروب الطائر بأي لحظة لأدنى حركة واصفاً بأنه جاهز للهروب بسرعة وقبل المغادرة يحط فوق اللبلاب، لكنه لا يوضح لماذا؟ وبإمكان القارئ أن يلاحظ بأن المتكلم يركّز على تسجيل ملاحظاته عن حركاته وتصرفاته، لأنَّ وجوده الذي يمثل محور القصيدة ينطوي على دلالة وأهمية كبيرتين: 
أنت من أعشقه
أيّها الطائر الأسود. 
في هذا المقطع ذي البيت الواحد يظهر بطل القصيدة عاشقاً للطائر، ونرى كيف يتحدث مباشرة معه، وقد يبدو أمراً غريباً إلى حدٍّ ما بالنسبة لرجل أن يعبر عن حبه لطائر، وهذا ما يجعل القارئ يفكّر بالمعنى الأبعد الذي يرمز له وما يمثله في وجدان المتكلم:
أتوقف، 
أتأنى 
أحترس، 
ألتقط أنفاسي،
في هذا المقطع نرى توق بطل القصيدة لبقاء الطائر ساكناً، حيث يقف، إنه يراقب متمنياً أن يحصل شيء ما فيقرر استدعاء كلمات شخص آخر من الذاكرة للتعبير عن أمنيته المخفيَّة:
وتعود إلى خاطري أبيات شعريَّة ترجمتها ذات مرة.. (أريد طريقاً إلى بيت الموت، حيث يرقد أبي تحت السقف الطيني الخفيض).
وأوضح من هذه الإحالة بأنَّ حنيناً غامضاً للموت يبدأ باجتياح وجدان المتحدث الذي لم يعبر بلسانه عن هذا الشعور، بل باستخدام كلام شخص آخر يهجع في الذاكرة، من دون أن نعرف بالضبط لماذا خالجه هذا الحنين.
بالوصول إلى هذه النقطة يصبح القارئ واعياً بأنَّ الطائر الأسود يمثل رمزاً للموت بالنسبة للشاعر/ المتحدث، وتكمن المفارقة في أن يقول بأنه يحب الطائر الذي يرمز للموت، والذي يفترض أنه مخيف ومكروه، إذ يتمثل الانزياح في المعنى بعدم الخوف من الموت ومحاولة التشبّث به والخوف من إمكانية أن يهرب بأي لحظة، إنّه الكائن الذي تمتزج فيه ملامح الموت والحياة معاً، إنّه رسول بين الاثنين، إنّه الحركة التي يحلم الشاعر أن يحولها إلى سكون خائفاً من هروبه لأدنى حركة تفزعه، وتنهمر وقائع الذاكرة في لحظات استغراق واستحضار لأحباب فقدهم الشاعر في مراحل مختلفة من حياته:
مستذكراً شخصاً آخر التحق به،
راقصاً صغيراً هادئاً،
ابن صياد، أخا ضائعاً،
كان يتقافز فرحاً 
عندما أعود للبيت.
يكشف المتحدث عن خفايا روحه لقرائه وحنينه للطائر برمزيته للموت لأنه سرق أخاه، وإذ يراقب حركات الطائر يتخيل بأنه يرى هذا الأخ يثب فرحاً في باحة البيت الخلفية بقدومه، في إشارة لشقيقه الأصغر الذي اعتاد أن يفرح به وهو عائدٌ إلى البيت من مدرسته الداخلية أثناء العطل والإجازات.
ويبدو الحنين للموت بوصفه حلاً وتحرراً من وجع ممض يعاني منه المتحدث بسبب فقدان شقيقه الذي يحنُّ للقائه في العالم الآخر:
وها أنا أفكر بكلمات قالها جاري، بعد وقت طويل من الحادثة: (أنت أيها الطائر على القمة لأسابيع – لم أقل كلمة حينها لكنني لم أحبك في يوم من الأيام).
يتذكر البطل شيئاً قاله له جاره بعد فترة طويلة من حادثة الفقد، إذ أخبره بأن طائراً أسود كان يحط على السقف الذي بقي هناك لأسابيع لكنه لم يحبه أبدا، ولسبب ما بقيت الكلمات ملازمة للمتحدث، وربما رأى في هذا الطائر صورة لأخيه:
القفل الأوتوماتيكي
صرَّ منغلقاً
فزع الطائر الأسود استمرَّ لبرهة قصيرة
ورأيت نفسي بنظرة الطائر 
ظلال تغطي حصى محززاً 
مكوماً أمام بيت حياتي.
يمثل القفل الأوتوماتيكي رمزاً لإفزاع هذا الطائر الذي يفرُّ محلقاً بعد سماعه للصوت المرعب، وبعد فراره بدأ المتحدث برؤية نفسه من خلال نظرة عين الطائر ويسود شعور بالإحباط والارتباك فيرى ظلاً على حصى يتجمع في باب حياته ما يرسم جواً من التشاؤم والتشويش النفسي الذي يكرّس تشوشاً في ثيمة القصيدة، غير أنَّ حقيقة أنَّه يرى ظلاً ملقياً في (بيت حياته) يعني بأنّه أعطي رؤية أو على الأقل تحذيراً بأن حياته مهددة بالزوال بظل يتربّص به واقفاً عند عتبة الباب، ويبدو واضحاً أنَّ المتكلم يحسّ باقتراب الموت منه لكنه غير خائف بل يرحب به ويعشقه:
 أنت ياسريع التهرّب 
كلّي لك 
لمماحكاتك الجاهزة 
إياباتك المتحفظة 
لمنقارك الذهبي، القلق الانتقائي 
على العشب عندما أصل،
على اللبلاب عندما أغادر.
في هذا المقطع من (شحرور غلانمور) يعود الشاعر/ المتحدث من تجربة خارج الجسد إلى نفسه قائلاً بأنه (كله بشكل مطلق للموت) متذكراً شقيقه الراحل بملامحه وسلوكه متحولاً لوصف الطائر، ومتنقلاً بين أخيه والطائر، خالقاً نوعاً من التماهي بين الاثنين، وهذا ماقد يفسّر حبّه للطائر الذي يجمع بين الموت والحياة بتوتر شعري شجي
وآخاذ.