قدّاسُ الصَّلب الفلسطيني

ثقافة 2022/04/25
...

  محمد خضير

 (1) افتتاح
سأعزفُ هذه الليلة على مزمار عمودي الفقريّ
نشيدَ ماياكوفسكي الذي قتلته الكآبة.
انزلْ عن كبريائك، أيْ مزماري، وخفّف
من صُداح غلوائك، وأطلِلْ
على عشرة ثقوبٍ في جسد الكانتاتا الفلسطينية.
نفسي حزينة حتى الموت، فأطلِقْ أيّها المزمار القديم
أشجانَ الرعاة اللاجئين إلى مغارة المهد،
وأنت أيها الدَّم المطلول، فلتقُمْ من جَدثِك،
ولتسِرْ تحت الحِراب إلى حُضن أمِّك. وليقُمْ مجدُك،
أيّها المصلوب المهاجر والشهيد، فوق أرضك،
وفي الأعالي. فأنا أُنشِد من أجلك. أخي.
 
(2) الاجتياح
أيْ إلهي، أنا ابنُك، ابنُ الحرب، أعنِّي على مقاومة عدوّي.
لا أتقِن صناعة دبّابة، فاصنع لي بيانو من الحجر أسحقُ بها عدوّي.
لا أحسِن التحليقَ بطائراتي، فهَبْ لي كماناً أقاوِم به الأباتشيّات.
لا صوت لي، فأرسِل لي صُوْراً أنفخ فيه غضبي. أنا المقيَّد، إلهي،
دع إسرافيلَ ينفخ في ساكسفوني.
أيْ إلهي، أنا الأسير، أسيرُ محبّتك، أطلقني من سجني كي أكتشف خريطةَ قدّاسي.
أواه، يا ربَّ الأرباب، افتح لي أطلسَ حروبك، كي أقهر عدوّي على رقعة النوتات المخاتلة، 
وأصرعُه كما صرع داود الملاك، لو أنّ قوة الأنبياء ما تزال تنبع من استراتيج أوركستراك.
أواه، أيتها الأقدار الإلهية، ماذا أصنع كي أستبدل وطناً بمسرح الملوك الطغاة، وتاريخاً بأنبياء سكارى، وإلهاً بجنرالات قُساة؟ بأيّ قربانٍ أضحّي كي أصِلَ الى شفرة صعودي؟ أيُّ طفلٍ أدفنُه بين الألغام كي تُولد سمفونيتي؟
أيْ إلهي، اصنعْ لي معجزة، فأنا أقدِّس غضبَك، وأنتظر رحمتَك بشعبي. ربِّ ارحمْ.
أيْ مزماري، اصدحْ عالياً، كي يهدأ ألمي.
 
(3) الصلب
أنا الممرِّضة. أنا الجنديّ. أنا المراسِل. أنا الطفل. أنا الأسير. أنا المزمور. أنا الكلمة. أنا المصلوب.
أنا الصوت. أنا الاغنية. أنا الاستغاثة. أنا الجرح. أنا الرصاصة. أنا الصليب.
أنا الرئيس المقيَّد في محبس رام الله، الرئيس على متاهات الأمم، وإمبراطوريات الخوف. أنا الرئيس الحرّ في أوقيانوس العبودية.
أنا الأمّ الملحميّة. أنا الجدّ المقدسيّ. أنا الراهب الجليليّ. أنا الراعي الناصريّ. أنا الصيّاد الجبليّ. أنا الشاعر المجدليّ. أنا المغنّي اليسوعيّ.
أنا الزَّيتونات المعمَّرة، البرتقال الذهبيّ. أنا إكليل الشَّوك. أنا الحجَر المخضَّب بالدماء.
أنا قوتُ الأرض الفلسطينيّة، حياة راكعة، وصلاة قائمة. أنا إصحاح الانتفاضة، كتابي لا يزول.
أنا إبراهيم. أنا إسماعيل. أنا الذبيح. أنا المفدّى.
أنا البرعم الفلسطينيّ صلبُوني. أنا الحارس رجمتُه بحجَر. أنا الشِّبليّ رشقتُه بوردة. أنا اليتيم أنشدتُ وحدتَه. أنا الخائن قبّلت جراحَه. أنا الصامت أتكلّم عنه.
أنا الهارب من دمه حملتُه على ظهري. أنا المجوسيّ رأيتُ نجمتي في دموعه.
أنا المرتِّل أنزلتُ له النجوم.
أنا المُنشِد نصبتُ قدّاسي على جثّته.
أنا بيلاطس أتثاءب تحت الصليب.
أنا المصلوب أبارِك أعدائي.
طوبى لآلام الذئاب. طوبى لدبّابات الجلجلة.
أنا المُنشِد الأخير. هللويا!
 
 
(4) الصعود
بكوفية مرقَّطة، يصعد عرفاتُ الفلسطينيّ إلى مذبح 48 حيث تتكدّس الجثث بلا أعضاء، ولا أسماء، ولا أوسمة، منتزِعاً جسدَه من كورال المُنشدِين قيامةَ الوطن السليب.
الموكب يرفع الشِّلو تلوَ الشِّلو إلى مطهر 48 المتاخم للبحر. الهجرة الأخيرة، القربان الأخير، الوطن الأول والأخير، وطن المحاصَرين.
بلا رايات، بلا دويّ، يشقّ قاربُ ياسر عرفات نهر الميلوديا إلى مطهر البحر.
سيفٌ من ضياء يشقّ الموج ويحمل الجدَث، مودَّعاً بالتهليلات.
يتأوّه البحر، ويبكي القمر. تهجدّات الليل تُسمع في أركان المدينة القديمة. اللحنُ جريح وخافت.
وِشاحٌ من دم يطوِّق عُنقَ العالم. الأفق أصفر مغبَّر. اللحنُ بطيء كحشرجة المسموم.
ميلوديا الصعود تتكسّر، الفلوتات تنشج، الكلارنيتات تسجد، الفيولينات ترتعش، الجثّة تصعد مذيَّلة برسائل الأرض الغضبى.
الأبواب الخمسون للمطهر تنفتح مزمجرة. الملائكة الراكعون يصوّرون الصعودَ على شريط فيديو.
الصليب الخالي يتلألأ بسيف الربّ الذي يشقّ البحر المظلم.
الميلوديا تعتدل والألحان تسري في عروق الرئيس المسجّى.
الأصواتُ المتهجِّدة تُنشِد أغنية الوداع الختامية.
أيْ ربّي، أسمِعني كلماتِك، وأنت تستقبل أبناءك الصاعدين إلى المطهر.
 
(5) وداع ختاميّ
صدى الأنغام الصاعدة، والآهاتُ النازلة، 
في أرغنات الجنائزيّات الفلسطينية،
تنساب وجَلاً في نشيدي. 
السماء تركع لأغنيتي. الأرض تُنشِد مع حنجرتي.
يا إلهي، اسمع صلاتي، ودع قضاءك
يختم هذا المشهدَ الختاميّ لأغنيّتي
القصيرة، بنفحةٍ من شدوك السماويّ.
آمين!
9/4/2002م