الغجرُ الشعريُّ

ثقافة 2022/04/27
...

 محمد صابر عبيد
تعد ظاهرة «الغجر» من الظواهر الاجتماعيّة والثقافيّة التقليديّة في أغلب المجتمعات البشرية على وجه الأرض، وتمتاز بشبكة مميّزات وخصائص تعبّر عن طبيعة حياة هذه الفئة من البشر بإيجابيّاتها وسلبيّاتها حالها حال فئات البشر الأخرى بلا استثناء، ولا شك في أن تشبيه حالة إبداعيّة شعرية بهم لا يعني قطعاً الانتقاص منهم بقدر ما نريد تمثيل الفكرة وتوضيحها على نحو دقيق، والبشر أنواع وأشكال وألوان وأصناف لا حصر لها مثلما المبدعون أيضاً ومنهم الشعراء، 
والكلّ فيهم الصالح وفيهم الطالح وفيهم من يتوسّط بين هذا وذاك بقدرٍ أو آخر، بما يؤكّد قَدَرَ الحياة في التنوّع والتعدّد والاختلاف والمغايرة.
يرتقي الإبداع الشعريّ أعلى مراتب الإبداع الفنيّ منذ أقدم العصور ولدى معظم شعوب الأرض، وذلك لأسباب تاريخيّة وإبداعيّة ونفسيّة كثيرة؛ ربّما يكون بعضها «ذا طبيعة عربيّة على وجه الخصوص» تجعل من الشعر في قمّة هرم الفعاليّات الإبداعيّة المعروفة والمتداوَلة، وعلى الرغم ممّا اكتنف مسيرة الشعريّة العربيّة من تموّجات وتشظّيات وانفلاتات وتناقضات في بعض مراحلها وتجلّياتها، لكنّ الشعر بوصفه نشاطاً إبداعيّاً وإنسانيّاً خلاقاً ظلّ في رفعة وارتقاء لا يدانيه فنّ آخر من فنون القول وحتّى الفنون الجميلة الأخرى، فالشعرُ سموٌّ ورقيٌّ وأناقة وألقٌ وكاريزما وإشعاعٌ مستمرٌّ لا ينقطع، وإذا ما أردنا أن نمثّل لشخصيّة شعريّة تتميّز بهذه المواصفات كلّها على نحو غزير فسنستعين بشخصيّة الشاعر أدونيس فوراً، وهي شخصية بوسعها أن تكون مثالاً أصيلاً للشاعر المثقف والمبدع والراقي متمثلاً مجموع الصفات الأخرى الضروريّة اللائقة بصفة شاعر، من دون التنازل عن أيّ منها مطلقاً.
لا يمكن أن يكون كلّ شعراء العربيّة مثل أدونيس قطعاً لكن من يمكن إدراجهم منهم في هذا الحقل كثيرون بالتأكيد على تباين مستوياتهم وطبقاتهم، وربّما في كلّ نشاط في الحياة ثمّة أنموذج يمكن أن نصفه بالأصيل وأنموذج آخر مناقض يمكن أن نصفه بالغجريّ، وقد يُستدعَى في هذا المقام أنموذج «الشاعر الصعلوك» الذي قد يتوسّط بين الشاعر والغجريّ على نحو ما، غير أنّ هذا الأنموذج مختلف ولا يمكن مضاهاته بالغجريّ لأنّ فلسفة الصعلكة تنطوي على مرجعيّات فلسفيّة -وربّما أيديولوجيّة- خاصّة، بما يدعونا إلى استبعاده من فضاء المقاربة هنا ونحن نحاول التأكيد على أنموذج الشاعر النوعيّ في تشكيله الأصيل، ونضع مقابلاً له الشاعر الآخر في تشكيله الغجريّ المناوئ للتشكيل الأصيل.
لم يعد بوسع الشاعر الحديث أن ينام ملء جفونه عن شواردها كما كان يفخر المتنبي بنفسه وشعره ومكانته الشعريَّة الفريدة، فالشاعر الحديث شاعر مثقّف ويحاول أن يحمّل شعره قدراً مهمّاً من الفكر المناسب لعصره ولا يكتفي بالتعبير الشعريّ الفِطريّ، ومن ثمّ يغادر منطقته الشعريّة ويتركها للمتلقّي يصول ويجول بها كما يشاء، إنّما يبقى حاضراً وفاعلاً على هوامش نصّه الشعريّ وتخومه وضفافه مدافعاً عن فلسفته الشعريّة كلّما كان ذلك مناسباً وضروريّاً، وإذا ما وجد نفسه شاعراً فِطريّاً واكتفى بسحر هذه الفِطريّة فسرعان ما يموت بموت الموجة الشعريّة التي يندفع معها مهما كان بريقها ساطعاً.لا يبحث شاعر اليوم عن جمهور يصفّق له في القاعة ويثير فيها الهرج والمرج وهو يتلو شعره بطريقة استعراضية مُهينة للشعر، ثم ما يلبث هذا الجمهور المصفِّق بعد ذلك أن ينساه وينسى ما قال، بل يحتاج إلى قارئ نوعيّ يغوص في طبقات النصّ ويستلهم منه معرفة شعريّة لا يعثر عليها في أيّ مكان آخر، وهو ما يتطلّب شخصيّة شعريّة ذات كاريزما مزدانة بالرقيّ والتوقّد والاحترام والكبرياء الإنسانيّ في السلوك والرؤية والتعامل والكلام، لا أن يهبط إلى درجة الفعل التطريبيّ والترقيصيّ كما يفعل الغجريّ في المناسبات الخاصة والعامة.
إنَّ الشاعر الحديث الذي يقدّم أنموذجه في صورة الغجريّ لا يمكن أن يكون شاعراً أصيلاً مهما طبّل له المطبّلون وزمّر له المزمّرون، لأنَّ الغجريّ بحكم طبيعة تكوينه الإنسانيّ والاجتماعيّ والمهنيّ لا يتقصّد فعل الغناء والرقص بوصفه فناً بل مهنة للعيش والارتزاق، والشاعر الذي يقترب من هذا المناخ يتساوى مع الغجريّ في أنّه ربّما يقصد التهريج لا الشعر في نهاية المطاف، ولذا فهو خارج منطقة الشعر بحيث يسوّغ لنفسه أن يسيء إلى شخصية الشاعر فيه، وشخصيّة الشعر، وشخصية المعرفة، وعليه أن يعي أنَّ جمهور المُطبّلين والمزمّرين من ورائه يضاعفون مستوى الإساءة له ويضحكون على أفعاله بعيداً عن دائرة الإعجاب والاحترام، على النحو الذي يقوده إلى خسارة كلّ شيء بفجائعيّة عالية تتركه نهباً للوهم والضياع والفقدان والتلاشي في نهاية
المطاف.
ترتقي صفة احترام الذات عند الشاعر الأصيل إلى مرتبة متفوّقة لا نقاش فيها ولا جدال ولا تساهل مطلقاً، فالشعر في أبسط تعريف له احترام للغة والمعرفة والفكر والجمال والإدهاش والرقيّ والفنّ العميق، ويستحيل التهاون في هذه المكانة وتعرضها لأفعال تجرح أناقة الشعر وتُضعِف من سطوعه ونقائه ورِفعته في أعين الجميع، ولا مناص من الحفاظ على صورة الشاعر في شعره وفي حياته أمام نفسه وأمام الآخرين، وإلا فعلى الشعر وعلى الشاعر السلام الأخير الذي يلقى عليهما وقد توسّدا قبر التلاشي والسقوط والانتحار.